صبيحةَ ودَّعَـــتْــنــا مَـي مـنـسَّـى*

بقلم هـنـري زغـيـب*

العرَّافةُ الإِغريقيةُ الـمُستغْرِقةُ أَمام بابها في حديقة الياسمين، ما تُراها تَكتُب، حتى تَـجمَّعَت فوقَها صامتةً رفوفُ العصافير على سياج الحديقة؟ ولماذا يلفُّها حزنٌ رجراجٌ يكادُ يسقط على خدَّيها دموعًا حافيةً لا ترحم جمال الغمَّازتين؟ وكيف يلفُّها غيمُ تراجيديا ميثولوجيٌّ، مع أَنها في زهوة النضارة من حيوية القلم؟
تقترب العصافير على رؤُوس أَجنحتها فلا يفضحُها رفيف، كي تسمع الحبر الـمُنساب على الورق. فماذا قرأَتْ؟ “ما زال البشرُ، وأَنا منهم، مفتونين بتراجيديا الآلام الأُسطورية العتيقة، بوجهِها البشِع، بالموت المحكوم عليه أَلَّا يموت” (“المشهد الأَخير”).
الشكلُ كأَنَّه رواية. لكنَّ العرَّافة كأَنها تكتب سيرةً ذاتيَّةً مُقَنَّعة: “أَعيشُ خارج الوقت. أَعيشُ في غُربة. أَنا غريبةٌ عن الأَرض والعائلة والزواج. غريبةٌ عن كُلِّ شيْء” (“أَوراقٌ من دفاتر شجرة رُمَّان”).
كأَنها تَـختبِـئُ خلْف شخصيَّات الرواية لتَكْتُبَ تَفَجُّعها من خلف الستارة: “شعرْتُ بِيَد القدَر تَـقْتَــلِعُني من عُزلتي الـمُزْمنة وتَـحُثُّني للانتصار على عِلَّتي. والذي خطَــرَ ببالي ليلًا، قمْتُ ودَوَّنتُه على ورقة ٍكي لا تَـخذُلَني ذاكرتي”. (“قتلْتُ أُمي لأَحيا”).
تلاحظَت العصافيرُ في أَسى: كأَنَّ العرَّافة فراشةٌ إِيكاريَّة تـحُوم حول القنديل رغبةً في الاحتراق الـمُنْقذ: “نُلملِمُ أَشلاءَنا لإِعادةِ بناء الذات، ونُشَيِّد لأَمواتنا مدافنَ تَليقُ بهذه المحطَّة التي رَسَوا فيها مُكْرَهين” (“حين يَشُقُّ الفجرُ قميصَه”).
تتسارع الصفحاتُ تحت نبضات القَلَم والأَلَـم، فَتَتَلاهَثُ الكلماتُ تَـعـبَـى من وطأَة الأَنين: “للسماءِ واجباتُها على الأَرض، تُرسلُ مَن يَنُوب عنها منسَجمًا بنَواياه مع الموت. الدربُ إِلى المقبرة دائمًا حزينة، تُظلِّلُها أَشجارُ شربينٍ مُرافِقةٌ بوَقارٍ هذه النُزهةَ الوَداعية” (“تماثيلُ مُصَدَّعة”).
تَلوي الياسمينةُ عنقَها بصفعَةِ حُزن: تُـرى العرَّافةُ تَـحدُسُ بغياب وشيك؟ “تدثَّرتُ بالغِطاء مثل ميتٍ يدَثِّرُهُ الكفَن، كي لا تَخنقَ صدري عتمةُ الصباح تَدعوني للسفَر إِلى الماضي بِوُجُوهه الـمَبْتورَة” (“أَنتعلُ الغُبارَ وأَمشي”).
ما هذه الأَنواء تتلاطَمُ في بَـحر الغياب، تَساءَلَت العصافير وفي ذاكرتها أَطيافُ مسرحيٍّ سقَطَ على الخشبة، رسامٍ وقَعَت من يده الريشةُ، نَـحَّاتٍ هوَى من يده الإِزميل: أَهُو الغُروب الصاعقُ في منتصف النهار؟ “كانت أَوراقي هي النافذة إِلى رُوح الأَشياء وأَسرارِها، أَستَمعُ إِلى الصمت، أَتَـحاكى معه فيُسْمِعُني صُراخيَ المطمورَ في أَعماقي” (“أَوراق من دفاتر سجين”).
بقيَت العصافيرُ لم تَفهمْ، حتى قرأَتْ: “في داخلي بكاءُ امرأَةٍ عائدةٍ إِلى بلْدتها مَـحمولةً في نَعْش، مُطْمَئِــنَّــةً إِلى أَنها نَفَّذَت الوصية: أَن تَرقد بالقُرب من أُمِّها” (“ماكِنة الخياطة”).
عندئذٍ فهمَت العصافيرُ أَنَّ العرَّافةَ تكتُب خاتمةَ الرواية، وتُوقِّعُها باسم مستعار: مَي منسَّى.
إحترامًا لرَهبَة هذه الخاتمة، طارَت العصافير عن سياج الحديقة، وهي تَتَهامَس وَداعَ السيِّدة التي نَذَرَتْ أَن تُلاقي أُمَّها، فَدَخَلَت جسَدًا في نعش، تاركةً رُوحَها تَـحرُسُ قلَمًا يتيمًا يَنتظِرُ مع الربيع عودةَ عَــرَّافةٍ إِغريقـيَّـةٍ تَكتُبُ في حديقة ياسمين.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

* الاستشهادات في النص من روايات مي منسَّى الـمُشار إِليها في آخر كُـلِّ استشهاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى