فنزويلا: مبدأ مونرو والعين التي تقاوم مخرزاً

بقلم الدكتور هشام جابر*

ما يجري في فنزويلا الآن، يهدّد “بكارثة” ؟ إذا لم يجرِ حوار كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيرس” على هامش منتدى دافوس الإقتصادي العالمي. والحوار شيء مطلوب وضروري، بغض النظر عمّن قال بضرورته. مع كل الإحترام لشخصه وموقعه، إن الأمم المتحدة لم تعد كما يُفترَض أن تكون. كونه لا يمكن لأحد إنكار ارتباط هذه المنظمة العالمية بالولايات المتحدة الأميركية سياسياً ومالياً. واختيار الأمين العام وعزله، حيث لأميركا كلمة الفصل.
الواقع الذي لا يمكن إغفاله، إن من يحكم أميركا، ويحكم الرئيس الأميركي، هي “المؤسسة” (Establishment). وتتضمن، في ما تتضمن، اللوبي الصهيوني. أقول الصهيوني وليس اليهودي: لأن التعبير الأخير خطأ شائع. كون اليهود في أميركا لا يتجاوز 1.8% من عدد السكان. وهم ليس أكثر من ستة ملايين. معظمهم في نيويورك مشغولون بأعمالهم الخاصة وبجمع المال، وبالصياغة، والبورصة، ولا شأن لهم في الحكم، أو في السياسة. اللوبي الصهيوني عماده أكثر من 45 مليون أميركي من النخبة، هم المحافظون الجدد، أو” Christian Zionist” وهم أكثر تعصباً لإسرائيل من اليهود أنفسهم.
كما تتضمن هذه “الإيستَبليشمانت” (Establishment) “كارتل” رجال الأعمال وفي مقدمته “كارتل النفط”.
منذ مجيء هوغو تشافيز الى السلطة بدأت فنزويلا تظهر بقعة زيت في بحر القارة الأميركية وشوكة في خاصرة واشنطن. وتعامل الرئيس جورج دبليو بوش ثم الرئيس باراك أوباما مع الواقع بكثير من العداء المرير وبشيء من الحكمة، وبعض من سياسة الإحتواء. مع عدم توقف الأجهزة الأميركية من التضييق على الرئيس الراحل المتمرد على سياسة واشنطن ومحاولة عزله .
ومع وصول “نيكولاس ماديرو” الى السلطة ودونالد ترامب إلى البيت الأبيض تحوّل الخلاف الى مراحل كسر العضم. وأعلنت واشنطن كافة أنواع الحروب على”كراكاس” باستثناء الحرب العسكرية، بِدأً بالحرب الاقتصادية والنفسية والسياسية والديبلوماسية والتخطيط لإسقاطه. وماديرو صامد في موقعه. لا يؤمن بالمثل القائل “العين لا تلاطم مخرز” الذي ربما حمله معه أحد المغتربين اللبنانيين. لأنه بكل بساطة ليس من أصل لبناني. وركل بقدمه التاريخ والجغرافيا معاً.
لم يعلم، أو لا يريد أن يتذكر، بأن الرئيس الأميركي الخامس جيمس مونرو (1817 – 1825) أرسى ما يسمي “مبدأ مونرو” الذي يقول بأن أميركا اللاتينية هي “الحديقة” “الخلفية” للولايات المتحدة الأميركية. ويحق لأميركا أن تتدخل فيها عسكرياً، إذا شعرت أن مصالحها في خطر. أقول مصالحها وليس بالضرورة أمنها.
ماديرو لا يريد أن يتذكر أن أميركا اللاتينية كانت الى حين مُلحقاً في كتاب أميركا، وأن كافة دولها من دون استثناء كانت تخضع لأنظمة ديكتاتورية أرستها أميركا وتدين لها بالولاء والطاعة، مع أن واشنطن كانت دائماً تُردّد انها تريد إرساء الديموقراطية في هذه الحديقة الخلفية.
إبتداءً من أميركا الوسطى التي هي “تحصيل حاصل” وخط أحمر والأنظمة السوبر ديكتاتورية، في بنما، وهندوراس، غواتيمالا، والسلفادور الى الحرب الأهلية في نيكاراغوا، وجمعيها تُسمى بحق “جمهوريات الموز”، إنطلاقاً نحو الجنوب حيث قتلت أميركا عن سابق تصور وتصميم الثائر العالمي “تشي غيفارا” لأنه انتقل مع ثورته من “كوبا” بعد إنجاز المهمة الى “بوليفيا”. أميركا أركعت بوليفيا والباراغواي، وهي تتفنن بالديموقراطية. جاء نظام ديموقراطي واحد في جنوب أميركا حيث فاز “سلفادور أليندي”في الأرجنتين بثقة شعبه. فأزاحته المخابرات الأميركية المركزية “سي آي إي” بانقلاب دموي قام به الجنرال أوغوستو بينوشيه في العام 1973 حيث حكم أكثر من عقددين بالحديد والنار، لنكتشف بعدها وبعد أن بلغ عقده التاسع أنه مجرم وقاتل للآلاف من شعبه.
أميركا جاءت بحكم “مجلس عسكري” (JUNTA) في الأرجنتين، تم إزالته، وشجعت على محاكمة ضباطه بعد أن أدوا خدماتهم، وانتهت صلاحيتهم. والبحث يطول.
فكيف لنيكولاس ماديرو أن ينسى أو يتناسى.، أن فنزويلا هي أكبر منتج للنفط في القارة بعد الولايات المتحدة الأميركية – فهل اعتقد “ماديرو” أن يبقى “كارتيل” النفط محايداً؟
صحيح أن بعض دول القارة ابتدأت تعتمد أنظمة ديموقراطية كالبرازيل، والأرجنتين، وتشيلي، وبدأت تظهر شيئاً من الاستقلالية عن واشنطن إلا أنها لم تصل الى حد معادات أميركا أو الإضرار بمصالحها.
إلا أن “كراكاس” خرجت عن القطيع الملتزم. وغرّدت خارج السرب. واتخذت موقفاً معادياً لإسرائيل الدولة المدلّلة، التي تتقدم مصالحها وأمنها على مصالح أميركا في واشنطن، فهل نسي ” ماديرو ” اللوبي الصهيوني أو تناساه واستخف به وتحداه.
ماديرو اعتمد على تأييد شعبه أولاً. شعبه الفقير في دولة منتجة، رغم أنه لم يفلح في تحقيق وعده له بالرفاهية، ويعزو ذلك الى الحصار الاقتصادي، وسعي واشنطن الى زيادة إفقاره لعله يثور يوماً ما على قائده.
إن إعلان رئيس البرلمان “خوان كاديرو” نفسه رئيساً بانقلابه على رئيسه، لم يكن بريئاً أو عملاً “صبيانيا”،ً رغم أن “كاديرو” غير بعيد من هذه التسمية، فهو مبتدئ في السياسة.،وعمره لا يتجاوز الـ 35 عاماً. وما قام به هو “صنع في أميركا” وعلى قاعدة “عليّ وعلى أعدائي يا رب”. صحيح ما قاله أنطونيو غويتيرس لأن كرة الثلج تتدحرج وتؤدي الى حرب أهلية تستنزف هذه الدولة الآمنة وتدمرها، فمئات الآلاف في الشوارع، منهم مع، ومنهم ضد، لا يشي بغير ذلك. إذا لم تعد واشنطن الى رشدها وتقطع الفتيل الذي اشتعل. وتقتنع أن كافة الحروب الأهلية التي أشعلتها في دول “الربيع العربي”، أدت الى فشلها في تحقيق أي مكسب سوى قتل مئات الألوف من أبنائها وتدميرها. والمثل في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والبقية تأتي. وإذا كانت الشوكة في خاصرتها باتت مؤلمة ألا تستطيع أن تقتلعها برفق وبالتراضي بين الشوكة والخاصرة؟
في النهاية ربما “ماديرو” لديه “فوبيا” الانصياع لأميركا ونظر الى التاريخ بمجمله، وليس الى فصل القارة الأميركية فقط. وأيقن أن كلمة “انتهت الصلاحية” تنطبق في واشنطن على علبة الحليب، أو السردين، في السوبر ماركت، كما تنطبق على أنظمة وملوك وعروش، من شاه إيران الى ماركوس في الفيليبين، الى نورييفا في بناما، الى أنور السادات في مصر، والى غيرهم ممن خدموا واشنطن حتى آخر رمق من حكمهم وإنتهوا بالاغتيال، أو الإعدام او النفي أو السجن بمساهمة أميركية مباشرة أو أنهم تركوا على قارعة الطريق.
ستكون لأحداث فنزويلا إذا ما تصاعدت، تداعيات على العالم بأسره، مباشرة أو غير مباشرة حسب ما تقتضيه الجغرافيا التي أصبحت ضيقة، وشظايا الانفجار تصل بعيداً. لذا نأمل أن يتم إطفاء الحريق قبل انتشاره.
لا أحد يدري ماذا ستؤول إليه الأمور في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، لكن ما ندريه حتماً أن أميركا ستكون منشغلة حتى العمق بمسألة فنزويلا. وستنكفئ عن اهتمامها بالشرق الأوسط، محاولة الحفاظ على ” الستاتيكو” وعرقلة أي حل في العراق، أو سوريا، واليمن، الى حين إقفال هذا الملف النازف في خاصرتها.

• العميد الركن الدكتور هشام جابر ضابط لبناني متقاعد ورئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة. حائز على ماجستير في الإعلام من جامعة كنساس، وشهادة الدراسات المُعمقّة من جامعة السوربون، ودكتوراه في العلوم الإنسانية من جامعة السوربون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى