حزب الدستور التونسي .. هل يُحيي العظام وهي رميم؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2011 ، والحزب الدستوري في تونس — سليل التنظيم السياسي العائد تأسيسه لسنة 1920 أي قبل 100 سنة تقريباً، والذي أخرجه محمود الماطري والحبيب بورقيبة من قوقعته التي وصفت بالفارغة في سنة 1934– وهو يحاول أن يسترجع ذاته، ويستعيد مكانته أو على الأقل بعضاً منها ليكون فاعلاً في الحياة العامة في البلاد، خصوصاً وأن ” الثورة” لم تُكنّس رجال العهد السابق، ولا أتت بطاقم ثوري للحكم. لكنه، مع ذلك، لم ينجح في إعادة بناء نفسه أو إصطفاء قيادة جديدة موحَّدة قادرة على ملء الفراغ، فكان الحل القضائي غير القانوني ولا المُساير لما نادى به من خرج في مظاهرات 17 أيلول (ديسمبر) 2010 – 14 كانون الثاني (يناير) 2011 من حرية، مُنافياً لطبيعة مطالب الثورة، والذي جاء بناء على طلب وزير الداخلية آنذاك (القاضي الراجحي)، والذي يُقال إن مستشارته المسموعة كانت سهام بن سدرين، التي لا تتفق الأقوال حول توجهاتها وإن بدا لاحقاً أن حركة “النهضة” هي حاميتها.
المهم هو أن الحزب الحر الدستوري، والحر هنا تعني الليبيرالي، في مواجهة مع توجهات الاشتراكية الدولية، بعيد الحرب العالمية الأولى، بقصد عدم الإصطدام مع السلطات الفرنسية، ورغم أن محمود الماطري أول رئيس للحزب بعد الإنشقاق، كان خلال إقامته الطلابية في باريس، يحمل بطاقة الحزب الشيوعي الفرنسي، فإن القيادة القديمة للحزب والقيادة الجديدة أعلنت بعدها عن الفكر الاشتراكي، سواء لأسباب عقائدية، أو لأسباب انتهازية.
وإذ تعتبر الاستاذة عبير موسي نفسها، زعيمة للحزب الدستوري الحر، باعتباره وريثاً للحزب الحر الدستوري، فإنها أبعد من أن تحقق إجماعا حولها، والمحاولات متواصلة لدى حوالي 20 من المجموعات على الأقل التي تدعي كل واحدة منها أنها استمرار للحزب التاريخي، ليس من بينها من عاد لاستعمال كلمة التجمع، إيماناً منها جميعاً، بأن التجمع الدستوري لا يعتبر مقياساً جيداً للاستقطاب أو التجميع.
وإذ تجري محاولة “جدية ” يقوم بها عبد الكريم غومة – الذي كان مقرباً جداً من الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قبل أن يصيبه غضب ليلى الطرابلسي — باتصال مع الرئيس الأسبق، في محاولة لاستجلاب حامد القروي الوزير الأول الأسبق وأحد الزعامات التاريخية للحزب الدستوري، الذي يتعلل بارتفاع سنه للقول، بأنه يؤيد المسعى من دون أن يكون له مطمح في العودة إلى زعامة، وإذ كلف كمال الحاج ساسي بتنظيم ملتقى للدستوريين القابلين بالمسعى في 18 كانون الثاني (يناير)، وهو موعد تاريخي في مسار حزب الدستور وحتى في مسار البلاد، فإن الظروف لم ” تسمح” والتجميع لم يحصل، وتأجل على ما يبدو ليوم 2 آذار (مارس) وهو موعد آخر في تاريخ الحزب الدستوري .
غير أن للمرء أن يتساءل إن كانت إعادة الحياة إلى الحزب الدستوري ممكنة أم لا؟
فالحزب الذي كان حاكماً، والبعض يقول كان محكوماً، مرّ بأربعة أطوار:
** طور الدستور القديم بزعامة عبد العزيز الثعالبي في 1920؛
** طور الدستور الجديد بزعامة محمود الماطري ثم الحبيب بورقيبة في 1934؛
** طور الإنتقال إلى تسمية الحزب الاشتراكي الدستوري وتغيير كبير في مساره في سنة 1964؛
** طور التحوّل إلى تجمع دستوري في سنة 1988.
وإذا كانت لكل طور خصائصه، فللمرء أن يتوقف عند أمرين إثنين بارزين في حياة الحزب الذي قاد مرحلة الكفاح ثم بناء الدولة. فقد بدأ الحزب يتحوّل من تنظيم سياسي قائم بذاته إلى حزب للدولة بدايةً من الإستقلال في سنة 1956 /1957. وتعمق ذلك بعد أن تقرر إنهاء الجامعات الدستورية المنتخبة من القواعد، والإستعاضة عنها بمندوبيات الحزب التي يتم تعيين مندوبيها بدل الانتخاب. ثم لجان التنيسيق التي تكون عضويتها “بالإنتخاب” ولكن تُسنَد رئاستها للوالي أي للإدارة أي للسلطة والدولة، وصولاً إلى سنة 1964 ومؤتمر “المصير” في خريف ذلك العام حيث بات الحزب على شاكلة الأحزاب الشيوعية، أي حزب الدولة، وبعد المجلس الملي أطلق كما الشأن في الأحزاب الشيوعية على جهاز القرار بين مؤتمرين اللجنة المركزية، وأقحم الوزراء صلب اللجنة المركزية التي “ينتخب” أعضاؤها من قبل المؤتمر وفقاً لما تحدده القيادة الحكومية. وتم إخضاع الحزب الاشتراكي الدستوري لأجهزة الدولة، بل وأقحم وجوده في الدستور عبر مجلس الجمهورية الذي يضم الوزراء وأعضاء الديوان السياسي.
منذ ذلك الحين كفّ حزب الدستور أن يكون صاحب قرار، وبات القرار بيد السلطة الحاكمة مركزياً وفي الجهات، وتم تكليفه لا بنقل طلبات المواطنين من أسفل إلى أعلى، بل أوامر السلطة التنفيذية المتغولة من فوق إلى تحت .
ولم يعد حزباً حاكماً بل بات حزباً محكوماً. وانتفت عن أعضائه من وجهة نظرنا صفة المناضلين، بحيث باتوا غالباً أداة للدولة المتسلطة. وقامت الإدارة إلى حد كبير في التحكم في الدولة وحزب الدولة، بدل أن تكون الإدارة والدولة خاضعتين لتوجهات الحزب الذي لم يعد من وجهة نظرنا حاكماً.
وسنرى حركة “النهضة” تسير على الخط نفسه عندما حكمت في إطار الترويكا بين 2012 و2013، وهو شأن الأحزاب أو الحكومات التوتاليتارية.
ماذا نتج من ذلك؟
بما أن أي عضو (organe) لا يشتغل فمآله الضمور وتلك قاعدة بيولوجية، فإن حزب الدستور أصابه ضمور لا في عدد منخرطيه، بل إن الانخراط والجري للمسؤولية عملية انتهازية، لا كما كان الأمر أيام الكفاح ومواجهة الاستعمار، ولكن في دوره “كحزب يعلن أنه حزب حاكم أو يظن نفسه كذلك”، ولما ضمر دوره، فإنه امتلأ لا بالمناضلين وإنما بالموظفين أو أنه خضع للموظفين، فارتقى التكنوقراط إلى مناصب الوزراء، وارتقى من هم أقل شأناً إلى مناصب الولاة والمعتمدين ورؤساء الشركات، من دون إرادة فعلية نضالية.
ففي سنة 1984 وبعد ثورة الخبز، قلت للوزير الأول خلال مقابلة صحافية معه آنذاك وكان يفخر بأن استقبالاً حافلاً كان يُنظَّم له في كل أسبوع في ضاحية من الضواحي، قلت له لا تستطيع أن تُقنعني، بأن حزباً يهاجم الناس مقراته الجهوية، ويدخلونها عنوة، ويكسرون أثاثها ومكاتبها، وهو ما حصل أيضاً في كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) 2010/2011، من دون أن يوجد مناضلون يدافعون عنها حتى بمكانس في أيديهم، لا يعتبر من وجهة نظري حزباً، بل شتات من إداريين لا يحملون حماس المناضلين.

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى