القضيتان اللتان تقوّضان الإتحاد الأوروبي

بقلم هاني مكارم

بينما تمر بريطانيا بنوبة “بريكست” (الخروج من الإتحاد الأوروبي)، من السهل إعتبار قرارها هذا عملاً غبياً، وجرحاً ذاتياً سيؤدي إلى إفقار البريطانيين لسنوات. إن أوروبا هي أكبر سوق للمملكة المتحدة، حيث تستحوذ على نصف صادرات البلاد تقريباً، وفقدان هذا الإمتياز هو ثمن مرتفع لدفع بعض المكاسب الرمزية السيادية.
لكن كارثة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي تُسلّط الضوء على أوروبا نفسها، وما يراه المرء هو قارة ومشروعاً سياسياً متعثّراً توقف عن العمل – على الأقل بالنسبة إلى العديد من الناس في قلب أوروبا الغربية. أقول هذا كمؤيد متحمس للإتحاد الأوروبي. كانت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي المحركين الرئيسيين خلف عالم قائم على الأسواق المفتوحة، والسياسات الديموقراطية، والحرية والقانون، وحقوق الإنسان، والرفاهية العالمية. ومن المحتمل أن تتآكل هذه القيم في جميع أنحاء العالم إذا تضاءلت قوة وهدف أيّ من هذين المركزين.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، كان المشروع الأوروبي يتخبّط في مساره. ما بدأ كمجتمعٍ متعاون من الدول لخلق أسواق أكبر، وزيادة كفاءة واستقرار سياسي أصبح مهووساً بقضيتين كبيرتين قوّضتا منجزاته المركزية.
الأولى كانت – بعد انهيار الإتحاد السوفياتي – التكامل السريع للعديد من البلدان الجديدة التي كانت أقل تطوراً إقتصادياً واجتماعياً من الأعضاء الأصليين للإتحاد الأوروبي. منذ العام 1995، توسّع الإتحاد من 12 دولة إلى 28. وقد ركّز في الأصل على فتح الأسواق، وتبسيط الأنظمة وخلق فرص نمو جديدة، وسرعان ما أصبح الإتحاد الأوروبي “إتحاداً إنتقالياً وتحويلياً” ومخططاً واسعاً لإعادة توزيع الأموال من الدول المزدهرة إلى الأسواق الناشئة. حتى في البيئة الاقتصادية القوية اليوم، فإن إنفاق الإتحاد الأوروبي يُمثّل أكثر من 3٪ من إقتصاد المجر ونحو 4٪ من إقتصاد ليتوانيا.
هذه الفجوة بين أوروبا الغنية والفقيرة ذات الحدود المفتوحة أدت حتماً إلى أزمة هجرة. وكما أشارت المعلومات، فإنه بين 2004 و2014، هاجر حوالي 2 مليوني بولندي إلى بريطانيا وألمانيا، وانتقل حوالي مليوني روماني إلى إيطاليا وإسبانيا. وقد وضعت هذه الحركات ضغوطا هائلة على شبكات الأمان في بلدان المقصد وأثارت النزعة القومية والوطنية. كما أن تدفق أكثر من مليون لاجئ إلى أوروبا في العام 2015، ومعظمهم من الشرق الأوسط، يجب أن يوضع في سياق هذه الأعداد الهائلة من المهاجرين. وكما يمكن رؤيته في كل مكان تقريباً، من الولايات المتحدة إلى النمسا، فإن المخاوف من الهجرة هي الوقود التي تؤجج نار القوميين اليمينيين، الذين يشوّهون ويهاجمون المؤسسة السياسية التي يعتبرونها مسؤولة عن التدفقات غير المُقيّدة.
التحدي الثاني الذي يستهلك الإتحاد الأوروبي هو عملته، اليورو. فبعد إطلاقه لاعتبارات سياسية أكثر منها إقتصادية، فقد تضمّن اليورو خللاً بنيوياً عميقاً: فهو يفرض نظاماً نقدياً مُوحَّداً على 19 دولة لا تزال لديها أنظمة مالية مختلفة إلى حد كبير. لذا فعندما يضرب الركود، لا تملك هذه البلدان أي سلاح أو قدرة على خفض قيمة عملتها، كما أنها لا تحصل على موارد إضافية كبيرة من بروكسل (كما تفعل واشنطن مع الولايات الأميركية عندما تدخل مرحلة الركود). وكانت النتائج، كما يُمكن أن نرى لسنوات بعد العام 2008، ركوداً إقتصادياً وثورة سياسية.
يجب على “بريكسيت” أن تُجبر البريطانيين على التفكير بجدية حول مكانهم في العالم وإجراء التعديلات التي تسمح لهم بالإزدهار فيه. لكن ينبغي أن يتسبب ذلك أيضاً في جعل الأوروبيين يستفيدون من مشروعهم بشكل عام، وهي فكرة رائعة إنحرفت عن مسارها. إن الإتحاد الأوروبي يحتاج إلى أكثر من مجرد ترقيع؛ يحتاج إلى العودة إلى المبادئ الأولى، وإعادة إكتشاف هدفه المركزي والتساؤل عن جوانب نظامه الحالي التي لم تعد تعمل، أو معقولة، أو يمكن التحكم فيها. وكما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير في مقابلة أجراها أخيراً مع شبكة “سي أن أن”، من الأهمية بمكان أن “تفكر بريطانيا مرة أخرى ولكن على أوروبا أيضاً أن تفكر مرة أخرى”.
أوروبا تتعثر. وعلى الرغم من أن بعض الأميركيين يبدو مسروراً بهذا الإحتمال، إلا أنه أمر سيىء للولايات المتحدة.
قال بلير: “بحلول منتصف القرن، سوف تعيش في عالم متعدد الأقطاب. وفي ظل هذه الظروف، يجب على الغرب أن يبقى موحَّداً وأن تقف أوروبا جنباً إلى جنب مع أميركا، لأنه في النهاية. . . نحن دول تؤمن بالديموقراطية والحرية وسيادة القانون. . . بخلاف ذلك، سوف نجد أنه مع تقدم هذا القرن وأولادي وأحفادي يبحثون أين يقفون في العالم، سيكون الغرب أضعف. وهذا سيئ لهم وسيئ لنا جميعاً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى