الشيخ محمد بن راشد نصح الأسد والقذافي بتبنّي نموذج دبي قبل “الربيع العربي”

في سيرته الذاتية الجديدة “قصتي … 50 قصةفي خمسين عاماً” ، يكشف حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن أن الرئيس السوري بشار الأسد والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي سعيا إلى بناء مدينة مشابهة لدبي، لكنهما فشلا في فهم ماهية العمل الجاد والتصميم المطلوبين لهذا العمل.

حوار بين الشيخ محمد بن راشد، الممثل الراحل عمر الشريف وبشار الأسد (قبل أن يصبح رئيساً)

دبي – عمار الحلاق

كشف الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، عن إجرائه إتصالات سرية مع الرئيس العراقي صدام حسين، قبيل بدء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، عرض عليه خلالها التخلّي عن الحكم والإنتقال للعيش في دبي.
وقال الشيخ محمد في كتابه الجديد “قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً”، الذي صدر في 14 كانون الثاني (يناير) الجاري، إن صدام رفض العرض قائلاً إنه يريد “إنقاذ العراق وليس نفسي”.
وفي كتابه، الذي يروي فيه رحلة 50 عاماً من حياته وعمله ومسؤولياته، مُستعيداً ذكريات وتجارب ومواقف، يتحدث عن تداعيات الغزو العراقي للكويت في العام 1990، قائلاً إنه شكّل “نقطة تحوّل غيّرت المنطقة بأسرها”.
ويُعد كتاب “قصتي.. 50 قصة في خمسين عاما” سيرة ذاتية ذات طابع تاريخي وإنساني، يشاطر خلاله حاكم دبي ملايين القرّاء في الإمارات وفي الوطن العربي والعالم، إضاءات ومحطاتٍ من رحلة 50 عاماً من حياته وعمله ومسؤولياته؛ وهي رحلة يتداخل فيها الشخصي بالعام، كما تتقاطع فيها فصول بناء الذات مع بناء الدولة. وكانت أول وظيفة أُسندت إلى الشيخ محمد في خدمة وطنه في العام 1968، إذ تولى قيادة الشرطة والأمن العام في دبي، واستمر في وظيفته حتى تولى منصب نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي في العام 2006؛ مرورا بتأسيس قوة دفاع دبي، كأحد أنوية ودعائم الجيش المُوحَّد لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي كانت في طور المخاض.
ثم تولى منصب وزير دفاع في أول تشكيل وزاري لدولة الإمارات عشيّة قيامها في كانون الأول (ديسمبر) 1971، ليكون أصغر وزير دفاع في العالم، وليعمل على توحيد القوات المسلحة خلال 5 سنوات من قيام دولة الإمارات، قبل أن يقود مسيرة التنمية المتسارعة في دبي، وليا للعهد ثم حاكم لها، لتتحول دبي بفضل رؤيته السابقة عصرها إلى حاضرة كوزموبوليتانية، تُشكل نموذجاً للتقدم والإنجاز والإنحياز المُطلق للإبتكار وتجسيداً للأمل الإنساني، والإصرار على العمل والبناء في منطقة تعرّضت لكل أشكال العنف والحروب والدمار، بموازاة النهضة الشاملة التي شهدتها الإمارات ككل وبالتكامل معها.
يضم “قصتي”، 50 قصةً تُشكل فصولاً ومحطات، يغطي فيها الشيخ محمد مراحل شتّى من رحلة حياته الغنية ومسيرته الحافلة بالإنجازات، مُستعيداً من خلالها ذكريات وتجارب ومواقف تحتشد بالصور والأحاسيس والأفكار والتجارب الثرية التي ساهمت في مجموعها في رسم معالم شخصيته وفكره ورؤيته، مُنطلقاً من حياته الأولى في دبي التي كانت تكبر وتتطور أمامه يوماً بعد آخر، مُتفاعلاً مع البيئة من حوله كفتى يشقُّ طريقه نحو معرفة العالم والحياة بالتجربة والتعلم والتبصر والتأمل؛ لتشكل هذه التجارب لبنات في شخصية القائد الذي سيكون عليه، ورجل الدولة الذي يجد نفسه مستقبلاً أمام اختبارات وتحديات ومفترقات طرق تستدعي اتخاذ قرارات حاسمة، مُغلِّبا فيها مصلحة الوطن والشعب على أي مصلحة أخرى، واضعاً نصب عينيه أن “الإمارات لا يوجد فيها شخص أكبر من الإتحاد، ولا يوجد فيها حلمٌ أعظم من ترسيخ الإتحاد، ولا توجد فيها طموحات لأحد إلا لمصلحة هذا الإتحاد”، كما يؤكد في كتابه.
من بين فصول الكتاب التي تتناول وقائع سياسية عربية وإقليمية، يشارك الشيخ محمد القرّاء تجارب لافتة، كاشفاً النقاب لأول مرة عن مواقف جمعت بينه وبين عدد من الزعماء العرب، من ذلك إجتماعه بالرئيس العراقي صدام حسين، أكثر من مرة، لعل الموقف الذي ترك الأثر الأكبر لديه، كما يروي في الكتاب، يوم ذهب للقاء صدام في العام 2003، في محاولة أخيرة لتجنيب العراق الغزو الأميركي الوشيك، مُستعيداً تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين صدام، عارضاً عليه الرحيل عن العراق حماية لبلده، وشعبه.
وإذ يُعيد تأمل هذا اللقاء وما تلا ذلك من أحداث إنتهت بتدمير العراق، يقول الشيخ محمد: “بعد الغزو، لم يبقَ العراق كما كان، ولم تبقَ المنطقة كما كانت، كنت أحذر الأميركيين من الغزو وأقول لهم: لا تفتحوا الصندوق المُغلَق”.
أيضاً، من الفصول الجديرة بالتوقف عندها ذلك اللقاء الذي جمعه ببشار الأسد، يوم جاء إلى دبي في العام 1999، ولم يكن بعد رئيساً.
وللمرة الأولى، يكشف محمد بن راشد عن موقف طريف جمعه بالأسد الشاب يومها، حين اصطحبه في جولة بدبي بعيداً من الرسميات، فاجأه بها، من دون أن يُطلعه على تفاصيلها مُسبقاً، إذ أخذه حاكم دبي في سيارته، بعيداً من أعين الوفد المرافق، وأجرى وإياه جولة في أحد “الأسواق التجارية” (مول) وسط المُتسوقين، في تجربة تركت أثراً طيباً لدى الرئيس المستقبلي لسوريا، الذي لم يخف إعجابه بدبي.
وعلى الرغم من تأكيد بشار الأسد أنه يسعى إلى استنساخ هذه التجربة في بلاده، فإن التاريخ كانت له كلمة أخرى، لتدخل سوريا في السنوات السبع الأخيرة حرباً مدمرة، تسببت في قتل وتهجير الملايين من السوريين. ومع ذلك، يقول محمد بن راشد: “ما زال لدي أمل ويقين بأن الشعب السوري الذي استطاع بناء أربعين حضارة على أرضه قادر على بناء حضارة جديدة”.
من القصص المثيرة، أيضا، الزيارة التاريخية التي أجراها الشيخ محمد إلى ليبيا بدعوة من الرئيس الليبي يومها معمر القذافي، الذي أراد بناء مدينة مثل دبي في ليبيا، على غرار العديد من الزعماء العرب الذين يريدون تكرار تجربة دبي في دولهم، إذ يكشف محمد بن راشد للمرة الأولى عن حوارات ومواقف جمعته مع القذافي، مُدركا أن “دبي” لم يكن لها مكان في ليبيا آنذاك، مؤكداً: “لم يكن القذافي يريد التغيير، كان يتمنى التغيير.. التغيير لا يحتاج إلى خطابات بل إلى إنجازات.. التغيير بحاجة إلى بيئة حقيقية، الشعب وحده يستطيع التغيير للأفضل فقط.. الشعب الليبي يضم علماء ومواهب ورجال وأعمال وبناة وباحثين وأطباء ومهندسين، هم فقط يحتاجون إلى البيئة المواتية لإطلاق إمكاناتهم وإحداث التغيير الإيجابي”.
من القصص الجميلة والمؤثرة التي يضمها “قصتي” تلك التي يتحدث فيها الشيخ محمد عن جوانب من حياته الشخصية في سنوات اليفاعة بلغة تفيض عذوبة ودفئاً، خصوصاً علاقته مع أمه الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، رفيقة درب الشيخ راشد بن سعيد على مدى أكثر من 40 عاماً؛ أم دبي، التي أحبها الجميع، وبكى على رحيلها الجميع.
تحتل “لطيفة” 3 فصول في الكتاب، يكشف فيها حاكم دبي جوانب من علاقته بأمه، هو الذي كان أقرب الأبناء إليها، كما يصفها بكلمات جميلة، يستعيرها بوحي من قصيدة الشاعر نزار قباني في وصف بلقيس: “كانت أمي أميرة وجميلة، كانت أمي أجمل الملكات، كانت أمي أطول النخلات. كانت إذا تمشي يرافقها غزال، وتتبعها عناية الرحمن”.
كما يشارك محمد بن راشد قراءه علاقة العشق الأزلية التي تربطه بالخيل منذ صغره، وهو عشق رافقه في شبابه، ولا زال يلازمه حتى اليوم. ولعل قصة الحب الأولى مع خيله، بدأت من خلال علاقته بفرس تُدعى “أم حلج”، التي منحها الحب والرعاية وعالجها من إصابة في ساقها، فأعطته بدورها الشعور بالإنجاز، وهو درسٌ يطبّقه الشيخ محمد في كل شيء في حياته وعمله، فأن تحب شيئاً يعني أن تخلص له حتى النهاية، وكلما أعطيته أعطاك، حيث يقول: “تعلمت من خيلي أنه عندما تحب شيئاً واصل فيه حتى النهاية… عندما تريد إنجازاً أعطه كلَّك، لا تعطه بعضَك، إلا إذا كنت تريد نصف إنجاز، أو نصف انتصار”.
يتحدث الشيخ محمد في فصل بعنوان “من هناك بدأنا وهنا وصلنا”، عن حدثٍ مهم في تاريخ دولة الإمارات المعاصر، يتمثّل في مشروع إرسال رواد فضاء إماراتيين إلى الفضاء، وهو المشروع الذي أعلن عنه في كانون الأول (ديسمبر) 2017 عبر حساباته على مواقع التواصل الإجتماعي، بالتزامن مع الإحتفالات بالعيد الوطني الـ46 لدولة الإمارات، ضمن مشاريع منظومة الفضاء الإماراتية المتكاملة، كمدخل يؤكد فيه رؤيته الساعية دوماً إلى أن تكون الإمارات “الأولى” ورفع سقف الطموحات والتوقعات وتكريس ثقافة الإنجاز، لافتاً بقوله: “أعشق تحطيم حواجز جديدة أمام شعبي، أحب الوصول إلى قمم غير متوقعة، وأؤمن بأن ما يقود الشعوب نحو التطور ليس الوفرة المادية فقط بل الطموح… الطموح العظيم”.
من هذا المدخل، الذي يُجسد الحلم الإماراتي بالريادة، يعود حاكم دبي إلى الماضي، مُستذكراً “البدايات المتواضعة”، في بيت جدّه الشيخ سعيد في الشندغة. فمن ذاك البيت الماثلة تفاصيله في عقله وقلبه، البيت الذي رعاه وجهَّزه إنسانياً وعاطفياً لمسؤوليات المستقبل الكبيرة، من دبي في خمسينات القرن الماضي التي تصخب بالحراك الاجتماعي والاقتصادي، بدأ رحلة العمل الذي لن يتوقف، ووصول الإمارات إلى الفضاء لم يكن ليحدث لولا تلك البيئة التي غرست فيه ثقافة الانتماء للأرض، وزرعت فيه الرغبة بالعمل والإنجاز والتفوق.
من هذا الفصل الإستهلالي، يخطُّ الشيخ محمد بن راشد في “قصتي” فصولاً وصفحات من حياته وحياة وطنه، مُتوقّفاً عند محطّات مفصلية في تاريخ دولته كان شاهداً عليها وطرفاً فاعلاً فيها لعل أكثرها مصيرية في مخاض قيام إتحاد الإمارات الذي يكشف فيه جانباً من كواليس تلك الحقبة، ودوره في ولادة الدولة الفتية على يد المؤسسين الراحلين زايد وراشد، ومُضيئاً فصولاً من حياته في الطفولة والصبا، سني النشأة الأولى التي التصق بها في بيئته، فتعلَّم من الصحراء والبحر، وتعلَّم من جدِّه وأبيه وأمه، قبل أن يتعلم من العالم الأكبر؛ هي سنوات الحبّ الأول في كل شيء، حبّ الأم وحبّ الخيل وحبّ الصحراء وحبّ دبي وحبّ الإمارات.
كما يتوقف حاكم دبي في فصول مضيئة على تغيرات وتحوّلات سياسية مهمة في المنطقة العربية، تأثرت بها دولة الإمارات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، واستطاعت قيادتها عبر تحكيم منطق الحنكة والتعقُّل وتغليب المصلحة العامة، ومصلحة الأمة العربية، أن تجتاز تحديات إقليمية ودولية حرجة، مثل الحرب العراقية – الإيرانية، والإجتياح العراقي للكويت، والغزو الأميركي للعراق، والإجتياح الإسرائيلي للبنان، وغيرها من أحداث عايشها الشيخ محمد وسعى عبر موقعه إلى احتوائها والحدّ من آثارها ونتائجها الكارثية؛ أحداث غيرت وجه المنطقة، فدمّرت دولاً وشتت شعوباً في الوقت الذي واصلت فيه الإمارات مسيرة العمل والبناء، من دون أن تتخلى عن محيطها العربي، حريصة على جمع شمل العرب بكل السبل والوسائل الممكنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى