هل هناك بصيص أمل لتونس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

ندخل اليوم السنة التاسعة، من عمر الثورة في تونس التي اندلعت في 17 كاون الأول (ديسمبر) 2010، وتحقق انتصارها في 14 كاون الثاني (يناير) 2011 الذي تمثل في مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي الحكم، وقيام نظام جديد على أنقاض نظامٍ بوجهين إستمر في السلطة منذ 20 آذار (مارس) 1956 (؟).
لكن هناك أسئلة عدة بقيت مطروحة:
أولاً: هل يتم تأريخ الثورة بيوم 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 أي يوم إنتحر طارق الطيب محمد البوعزيزي، وهل إن ذلك كان مجرد شرارة، جاءت بعد إرهاصات عديدة لعلها تمثلت في أحداث الحوض المنجمي، وتطورات بنقردان وما سبقها من محاولة إنقلابية سنة 1962 أو إنتفاضة البرسبيكتيف في العام 1968، أوتطورات النكوص عن التجميع التعاضدي في العام 1969، أو المؤتمر المجهض لحزب الدستور في العام 1971، أو أحداث الخميس الأسود سنة 1978، أو ثورة الخبز في كانون الثاني (يناير) 1984، أو غيرها من الأحداث غير المعلنة طيلة سنوات التوتاليتارية الإستبدادية خلال الثلاث وعشرين سنة من حكم الرئيس الأسبق بن علي.
أم هل يتم تأريخ الثورة بيوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011 أي يوم إنتصارها، وزعزعة الأركان التي كان يقف عليها شامخاً رئيس الدولة، الذي لم يكن يتوقع أنه إلى زوال من الحكم؟ على غرار ثورة فرنسا باحتلال الباستيل في 14 تموز (يوليو) 1789، أو إنتصار الثورة البلشفية في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917.
جهات في البلاد ما زالت وستبقى تؤرخ الثورة بيوم 17 كانون الأول (ديسمبر)، وفي مقدمتها سيدي بوزيد التي تعتبر نفسها الأب الشرعي للثورة، فيما يعتقد مواطنو المكناسي والقصرين وتالة المدن التي تعتقد أن الثورة قامت على كاهلها لعدد الضحايا فيها. أكثر من ذلك، يعتقد بعض المؤرخين أن مظاهرة صفاقس يوم 12 كانون الثاني (يناير) 2011 التي شارك فيها أكثر من بمئة ألف شخص، هي التي هزّت أركان النظام، ونجد أصداء ذلك في الكتاب الجماعي الذي أصدرته جمعية محمد علي للثقافة النقابية بإشراف السيد الحبيب قيزة، بينما يرى البعض الآخر أن مظاهرة شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 كاون الثاني (يناير) 2012 كانت المسمار الكبير، في نعش حكم الرئيس الأسبق بن علي، أم إنه لو بقي في قصره وفي تونس لحافظ على حكمه.
ثانياً: هل كان حكم بن علي ليسقط لولا مغادرته البلاد صاحباً معه عائلته إلى المملكة العربية السعودية؟ وهل كان مُخيَّراً أم مدفوعاً من جهات داخلية وربما خارجية؟ وبعد نزوله في المملكة هل كان مسموحاً له بالمغادرة، أم أن قائد الطائرة فرض عليه ربما سعودياً وربما خارجياً وربما داخلياً أن يبقى هناك؟ ومن دبّر نقل السلطة منه بتلك الطريقة المضطربة، مع بقائها في يد القيادات التي كان بيدها بعضُ من السلطة قبل 14 كانون الثاني (يناير)، وهو ما يتنافى مع طبيعة الثورات؟
ثالثاً: هل إن ما حصل في تونس ثورة؟
باعتبار المقاييس المتعارف عليها للثورات، وإذ اتخذنا من أمثلة الثورات الكبرى في العالم مقياساً، فإن الثورة الفرنسية سبقها فكر حقبات التنوير وفلاسفة تركوا بصمات في تاريخ البشرية، وتولتها قيادات قادت الجماهير ثم تولت السيطرة على الحكم، وأدخلت أفكارها حيّز التطبيق.
أما الثورة البلشفية فإنها إعتمدت الفكر الماركسي وفكر فريديريك أنجلز ثم تنظيرات (فلاديمير) لينين كقاعدة، واعتمدت قيادات معينة سقط حكم القياصرة بيدها في تناقض كامل مع ما كان سائداً، أما ثالثاً وفي التاريخ المعاصر فإن الثورة الإيرانية في 1979 إعتمدت فكرا شيعياً متحجراً جمع حوله شعباً كاملاً، وقادته قيادة تحت قبضة الامام روح الله الخميني. وحتى الإسلام، إذا اعتبرناه ثورة بالمفاهيم الحديثة، فإنه قام على فكر يختزله القرآن وزعامة نبوية محمدية، قوية أنشأت نظاماً دينياً سياسياً إستمر أثره على مدى أكثر من 14 قرناً.
الثورة التونسية إذا صحّ إعتبارها ثورة، لم يسبقها فكر ولا تنظير، ولم تتولّها قيادة، ولم يسقط النظام القائم ورجاله بعدها، ولا تمت تصفيات من حسن الحظ إثرها كما حصل في أعقاب الثورة الفرنسية والبلشفية في روسيا أو الخمينية في إيران.
ربعاً: غادر الرئيس بن علي الحكم بصورة ليست لها سابقة. ولو بقي في قصره، لكان من المحتمل أن يستطيع الإستمرار في حكمه لمدة أخرى قد تطول وقد تقصر، ولكن أعضاده وليس غيرهم، هم الذين قاموا ضده بانقلاب “دستوري”، ونصّبوا أنفسهم في كراسي الحكم، إلى حين وربما لمدة طويلة، فقد بقي نمط المجتمع على ما هو في غالبه رغم محاولات فاشلة لحد الآن لتغييره، ولم يتغير شيء من النمط ” التنموي ” رغم تجاوز الأحداث له والدخول في عوالم العولمة، وعادت القيادات في النظام السابق إلى واجهة الأحداث بكل تناقضاتها “الشخصية ” التي كانت تختفي تحت مظلة بورقيبة بطرق حكمه الديكتاتوري، ومظلة بن علي بتسلطه الاستبدادي التوتاليتاري.
لكن جاءت الثورة بدستور جديد، كان نتاج ضغط أقصى اليسار، وإلى حد ما الإسلاميين، فكان أشبه بدستور الجمهورية الفرنسية الرابعة، بين 1946 و1958 والذي قاد البلاد الفرنسية إلى مأزق لم تخرج منه إلا بدستور جديد على يدي الجنرال شارل ديغول، الذي يمكن القول اليوم وبعد 60 سنة أن وصوله إلى الحكم في دولة ديموقراطية هي فرنسا، كان أشبه ما يكون بانقلاب عسكري – مدني بين الجزائر وباريس.
جاءت الثورة في تونس، والتي يقول عدد من المنظرين أنها ثورة فعلية، ولكنها مخالفة للثورات في التاريخ في تمظهراتها “atypique” حيث لم تعتمد المظاهر المتعارفة للثورات، فهي بلا فكر مسبق، ولاقيادة محددة، ولا برامج محددة، ولكنها تحمل في طياتها أشكال الثورة العادية ونتائجها.
ولكن يبقى أنها لم تأت بنظام جديد، بل بدا وكأن النظام القائم هو استمرار في العمق للنظام السابق، مع فارقين إثنين:
أولهما: حرية وديموقراطية فعلية فيها كما يرى البعض تجاوز من جهة وفوضى من جهة أخرى.
وثانيهما: فشل مدقع في تصور نموذج تنموي جديد حامل لآفاق مُبشّرة بتنمية فعلية وعدالة في توزيع الثروة، بل وعجز عن تصور لخلق الثروة قبل توزيعها.
من هنا فإن فئات كثيرة وخصوصاً شعبية باتت تحنّ إلى الماضي، ويترحم البعض على عهد بن علي، وقد شهدت بعيني في سوق بلدي في مدينة متوسطة كيف يتمنّى الناس في ما يشبه الإجماع خارج الدكاكين عودة بن علي ” والرخاء” الذي كان سائداً في عهده، ووفرة السلع التي كانت مُتاحة.
وسريعاً ما ينسى الناس عهود القهر، والظلم التي نالت الكثيرين، وتكميم الأفواه الذي كان سائداً زمنه، والفساد في العائلة والأصهار، وهو فساد وفقاً للتقارير الدولية زادت رقعته اليوم واتسعت.
الثورة وفّرت الحرية ولكنها، لم تُوفّر طيب العيش، والذين تولّوا الأمر من وجهة نظرنا، سواء في عهد الترويكا أو في عهد الحكم الثنائي لحزبي “النهضة” و”نداء تونس”، وهو المتواصل لليوم بطريقة أو بأخرى، لم يوفق في اختيار الرجال والنساء القادرين على إنتاج نمط تنموي قادر على العودة بالبلاد إلى مستويات نمو مرتفعة أو حتى متوسطة، وتوازن للحسابات القومية، كفيل بدفع الاستثمار والامتصاص التدريجي للبطالة وخلق الثروة لتوزيعها، وإحياء قيمة العمل، وقد فاتت البلاد فرصة القيام بالإصلاحات التي كان يمكن أن تنهض بالبلاد في زمن النهضة، عندما خذلت الشجاعة حكام 2012 ففرّطوا في الوزير الذي كان يدعو لذلك أي حسين الديماسي، أو زمن حكم النداء-النهضة عندما اتخذت قرارات بتعيين من لا قدرة لهم، على مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع في زمن ثورة تستدعي تضحيات، فات الآن موعد القيام بها.
ولكن مرور 8 سنوات، تُعتبر فترة طويلةً في حياتنا كأفراد ، ولكنها لمحة بصر في حياة الشعوب، إلى أن يأتي الأفضل.

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني اللتالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى