فيليب سالم: الطائفية مرض خطير وفصل الدين عن الدولة هو الحل للبنان ودول الشرق

صدر حديثاً عن دار “فجر النهضة” في لبنان كتابٌ جديد للزميل جان دايه عنوانه: “البروفسور فيليب سالم وسرطان الطائفية”. وهذا الكتاب يختلف عن سواه. إنه حوارٌ مفتوح على القضايا المُضنية في بلد مُتهالك. اسئلة يطرحها دايه على الدكتور فيليب سالم. اسئلة في السياسة والثقافة، وليست اسئلة في العِلم، أو في علاجات الأمراض، ومنها السرطان. أسئلة، حول سرطان الطائفية وحول الحلول وصعوبة إنجازها. ولبنان، بلدٌ صعبٌ جداً، يكاد يكون علاجه من المستحيلات. فهو لا يتقدّم في السياسة، وهو بلدٌ أدمن على التراجع، وهو كيانٌ صلبٌ وصامدٌ في وجه أيّ تغيير أو إصلاح أو تحسين أو تجميل.

بقلم جوزيف باسيل

فيليب سالم، الطبيب قاهر مرض السرطان هل يستطيع أن يقهر الطائفية في لبنان؟ وهل تمكّن من استئصال جذوتها من نفسه وهو نشأ في ملاعبها ككل اللبنانيين؟ وهل حياته المترفّعة عن الطائفية في أميركا، تنجح حين يكون في لبنان؟ أسئلة يستدعيها حوار جان داية مع سالم في كتاب “سرطان الطائفية”، عن العلمانية التي لا يحبّذها حلاً في لبنان، لكنه ينادي بالدولة المدنية، وهو متأثّرٌ بما يعتبره نجاحاً لها في أميركا ويفترض نجاحها في مجتمع لبنان الشبيه بالمجتمع الأميركي، حيث الديموقراطية تموّه التشوّهات السياسية والإجتماعية لمصلحة إستمرار سلطة الدولة العميقة، وقد يكون سبب النجاح هناك وجود الدولة، فهل هي موجودة في لبنان؟
الطائفية هي علّة وجود لبنان وسبب علله! وقد لا تكون هي السبب، بل القيّمين عليه. لو قلنا ان لا خلاص إلاّ بتحييد الدولة عن الدين، أو بتحييد النظام السياسي عن الأديان والطوائف، وهذا صحيح، وكل طرح من قبيله، لكن السؤال: كيف؟ يرى سالم أنّ إلغاء الطائفية السياسية قد يكون خطوة اولى، وهذا ما لا يراه كثيرون، بعدما صار طرح الفكرة ألعوبة بعض السياسيين في المماحكات الحزبية وعضّ الأصابع السياسية. فالدعوة الى إلغاء الطائفية السياسية تبطن السيطرة والغلبة لفئة على فئة، ما يسقط الحق في المساواة وتكافؤ الفرص. بالتالي تشكّل اعتلالاً للنظام وليس إصلاحاً له. يعزو سالم دعوته الى فصل الدين عن الدولة بنظامها وتوجهاتها واداراتها الى أنّ “الطائفية مرض خطير، لكنه يعالج والشفاء منه ممكن”. إذن يمكن تجاوز الطائفية في لبنان عندما يصبح كل لبناني قادراً على المفاخرة بمدنية دولته من دون أن يخشى لائماً أو تتربص به العواقب، وعلى المجاهرة بعلمانيته من دون أن يُتّهم بالإلحاد، أما دون ذلك فعيش في ظل شجر القتّاد.
يدعو الى الدولة المدنية التي تحقق مبدأ فصل الدين عن الدولة، وهو يفصل هذا المبدأ عن العلمانية، والدولة المدنية تحقق المواطنة، كذلك الدولة العلمانية، بل أكثر، لكنه يريد أن يحترم خصوصيات الأديان لجهة الشعائر وربما قوانين الأحوال الشخصية! فماذا بقي للفصل؟ أما العبادات فمصونة ومحترمة في لبنان، أما في الدول العربية فموضوع آخر. فكرة فصل الدين عن الدولة لا تبدو معالمها واضحة، لكنه يتركها للمشترعين يشترعون لها النظم والقوانين لتطبيقها، فكأنه يقول لكل دولة ظروفها التي تفترض أخذها في الإعتبار، لكن في الدولة العلمانية تبدو حدود الفصل واضحة ومتفقاً عليها في الغالب، أما الدولة المدنية كمفهوم جديد ملتبس بين الدين والعلمانية فيجب وضع نظمه وأطره بحسب كل دولة، فليس هناك نموذج واحد. كما أنّ تبني هذا المفهوم يُخفف الوقع على المجتمعات الدينية، خصوصاً بعدما وُسمت العلمانية بالإلحاد.
يفترض أنّ فصل الدين عن الدولة يقوّي الدولة على حساب الدويلات، ففي لبنان “ليس لدينا فقط دويلات سياسية ك”حزب الله” الذي يمتلك العسكر، بل هناك دويلات طائفية، وفي الطائفة نفسها دويلات”.

خطوة على طريق التقدم

تلمّس سالم تحقيق الأعجوبة في علاج السرطان ونجح بقدرات فائقة، وكذلك تلمّسها في علاج الطائفية في لبنان واللبنانيين، ولم تنجح حتى الآن، كأنّ قوى الإخضاع للتجربة أشد بأساً من قوى الصلاح. خطا على نهج الأطباء المفكرين على طريق الفكر السياسي مزوّداً الفلسفة والعلم، فاستلهم تجربة أسعد يعقوب الخياط في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وشبلي الشميّل في ثلاثيناته، ثم خليل سعادة في ثمانيناته، وحسن الأسير الطبيب الصيداوي الذي أسّس حزباً علمانياً باسم “الإتحاد الديموقراطي” خلال الانتداب الفرنسي. ومن الكورة إعتنق الطبيب عبدالله سعادة عقيدة أنطون سعادة وعلمانيته في اربعينات القرن العشرين، وفي السبعينات جلّى سالم في معالجة الأمراض السرطانية ما قاده الى معالجة السرطانات الفكرية التي تكثر في وطننا ومجتمعاتنا وتتوالد. ففيما قارب الإنتصار على سرطانات الأبدان، بل انتصر فعلاً على الكثير منها، بقي منكفئاً عن مداواة السرطانات الطائفية – وليست مسؤوليته – وإن حاول بالرأي والمشورة، وسطّر لها وصفات الحلول، فاستئصالها أكثر صعوبة وأشد تعقيداً.
الفكرة الأساسية فصل الدين عن الدولة، كي ينال كل منهما حقه، ففيما الدين علاقة خاصة بين الفرد وخالقه تُبنى على العبادات والأركان والطقوس، فإنّ الدولة هي تجسيد للنظام السياسي الذي يُنظّم علاقة المواطن، اي كل المواطنين، بعضهم ببعض وبالدولة في نظام وضعي يجب أن يتفق عليه الجميع ليحكمهم ويحكم بينهم جميعاً، بالتساوي وتكافؤ الفرص، من دون أي تمييز في أي شأن من شؤون الحياة والدنيا. فالعلاقة بالدين خاصة والعلاقة بالدولة عامة، تشمل كل مواطن وعموم المواطنين في حرية لا تخضع إلاّ لقانون واحد يحكم الجميع.

الحريات العامة ومنها الدينية

لا تتحقق الحرية الدينية إلاّ إذا تحررت الدولة من الدين. فالفارق بين المؤمن والمواطن في أنّ حرية الأول في ممارسة شعائره الدينية يجب ألاّ تنتقص إذا مورست في المكان والزمان المناسبين، كما انّ حريّة الثاني يجب ألاّ تنتقص إذا مارس مواطنيته في كل زمان ومكان. إذا توسّع الأول في ممارسة حريته تجاوز حقه في ممارستها الى الإفتئات على الثاني والتعدّي عليه.
يرى سالم أنّ فصل الدين عن الدولة يتلازم ومسار آخر هو فصل الدين عن التربية، فحرية التعليم والتفكير هي سبيل الى التفكير الحر والعقلانية، كما أنها السبيل الوحيد الى حرية الرأي والتعبير، وبالتالي الحريات العامة، ومنها الحرية الدينية. يبدأ من الأساس وهو التعليم ولا يغفل مراحله كلها، وإن ركّز على الجامعي، ويرفقه بالتربية، فهما يضعان القواعد الأساسية لكل نجاح مُحتمَل في الإرتقاء بالدين الى المستوى الإنساني الحضاري الراقي والعلو بالوطن الى القوانين الدستورية الحديثة الجامعة.
ويحدّد سالم تمايزاً للبنان عن محيطه بأربعة مرتكزات مهمة: إنه نموذجٌ للتعايش الديني كما الثقافي، وضابط الإرتباط بين الشرق والغرب، والبلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي لا ينص دستوره على دين الدولة، فيما الدول العربية ينص دستورها على أنّ دين الدولة هو الإسلام، وإسرائيل هي دولة يهودية عنصرية.
إنّ الدين، بطائفيته ومذهبيته، هو أخطر معضلات الأوطان في الشرق. كما بحاملي رايته في قتال الآخرين بُبدع جاهلية. فمنذ مطلع الألفية الثالثة أخذ التطرف الاسلامي يذرّ بقرنه في العالم، مُستكملاً حيال الديموقراطية الغربية ما مارسه ضد الإتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، فتمظهر بالتوحش في الهجوم الإنتحاري على البرجين في نيويورك في 11 أيلول (سبتمير) 2001. فكان أفظع هجوم إنتحاري في التاريخ بعدد الضحايا والأداة المستعملة. لذلك يقول سالم: إنّ أخطر ما يمكن أن يحدث في المشرق العربي أن تتمكّن إيديولوجيات دينية متطرفة أن تفرض إيديولوجيتها عليه، عند ذلك ستموت الحرية”.
ما توقّعه حدث أكثر منه، وتجاوز المشرق الى الدول الإسلامية والغربية، بل فاق التصور والخيال وما دُوِّن عن غزوات التتار والمغول، فلم تكن الحرية وحدها هي التي سقطت وماتت، بل كل القيم الإنسانية والحضارية منذ الحوثيين والكلدانيين والآشوريين والبابليين، ودمّرت حضارات عمّرت 6 آلاف سنة، وهذا ما لم يحدث في أحلك المراحل، واندثرت معالمها وآثارها، وأُزيحت مجموعات حضارية من ركائزها العميقة في الحضارة والزمان، وهكذا اكتملت إبادة المجموعات الحضارية بتدمير الحضارات واندثار معالمها وطمسها، حتى يمكن القول إنه بداية نهاية التاريخ المشرقي، وهذا ما لم يتنبأ به فوكوياما. فإذا كانت هذه المأساة كلها، وهي ليست تراجيديا على مسرح، حدثت في واقع النجاحات العلمية الباهرة في العالم، باسم الدين الإسلامي ومن أجل إعلائه وفرض سيطرته – كما تُحدّدها كتابات الإسلام السياسي – فإنّ أقل المطلوب المُرتجى السعي والعمل على تحرير الدولة من الدين، ثم تحرير الدين من الدولة بإخراج الدين من تحت عباءة السلطة السياسية فيستقيم الإثنان.
إما يُؤخذ التاريخ كله ولا يُترك جلّه، منذ بدأ التدوين، بل قبله، فبنيان الحضارات يعود به الانتروبولوجيون الى عشرات ألوف السنوات بكل تراكماته وتفاصيله وأهدافه ومغازيه… وإما محالٌ أن نختصره بألف وخمسمئة سنة الأخيرة، إنه افتئات على التاريخ وعلى صانعيه، أو صانعه لمن يعوزه الخيال.
لفيليب سالم مأربٌ في شرعة حقوق الإنسان، وهو أن تسود على كل التشريعات، ومقصد هو أن تستكمل الشرعة بالحق الأول، في نظره، “الحق في الحياة”، من الولادة الى الموت، فإذا لم تتأمن الحياة بالصحة والعافية فعبثاً تصح المطالبة ببقية بنود الشرعة. بهذا الحق يستكمل الشرعة التي شارك نسيبه شارل مالك في وضعها “ولو لم يكن مقرراً أو منسقاً للجنة شرعة حقوق الإنسان لما أقرت هذه الشرعة”.

• نُشرت هذه المراجعة أولاً في صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى