من غريب كامو إلى غريب عيسى

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

حين تضعك الظروف فوق تلة بين سهل وصحراء، عليك أن تتعالى فوق انتماء العرق وعصبية القبيلة. وإذا حكمتَ بين المتخاصمين، فاحكم بما أوتيت من فهم ووعي وحكمة، ولا تكن مجرد أداة طيّعة في يد أحدهم حتى لا تُصبح فرداً من قطيع وإن كان منتصراً. لا ترتد في الإتجاه نفسه مهما كانت قوة الدفع أو أبجدية السقوط. فكّر قليلاً قبل أن تُحرّك رأسك ذات اليمين وذات الشمال، ولا ترفع ذقنك إلى أعلى ثم تتركها تسقط في بلاهة كَدُميَة شُدَّت من أنفها لتؤدي دوراً تافهاً في مسرحية تافهة. ربما أراد ألبير كامو أن يقول كل هذا في قصته المدهشة “الضيف”، ولعلّه لم يقصد شيئاً من ذلك.
تجري أحداث القصة في الجزائر، في منطقة تماس بين خضراء المحتل وصفراء العرب. حيث يصعد تلة قديمة حصانٌ فتي، يحمل فوق ظهره جندياً فرنسياً، ويجر وراءه عربياً مُقيَّداً بالحبال. وفوق التلة، يقف دارو، المعلم الفرنسي الذي جاء مع المحتل دونما رغبة منه، ليراقب الضيف الثقيل قبل أن يعود لترتيب أثاث غرفته المُلحَقة بالمدرسة. وحين يصل الرجلان، ينهض دارو لاستقبالهما في فتور، ويصافح بالدوشي شرطي الدرك الفرنسي، ويكتفي بهز رأسه للعربي الأسير، ثم يصطحب الحصان إلى معلف قريب.
يلخص بالدوشي حكاية أسيره، بأنه جَزَّ عنق أحد أبناء قبيلته، وأن مهمته تقتضي تسليمه لدارو الذي سيقوم بدوره بتسليمه لقسم الشرطة في طنجة التي تبعد كيلومترات عدة في اتجاه الشرق. لكن المعلم دارو يفاجئ الشرطي الضيف بأنه لن يفعل ذلك حتى وإن كلفه الرفض حياته. يُصمم بالدوشي على تسليم رهينته، ويُجبر دارو على توقيع إيصال بالإستلام، ثم يغادر مُسرعاً لأن ثمة انتفاضة على وشك الإندلاع، وأن عليهم قمعها قبل فوات الأوان.
يعدّ دارو العشاء والسرير لضيفه الثقيل، ثم ينام ويدير ظهره له، وهو يتمنى من أعماقه أن يفر العربي في جنح الليل من دون أن يزعجه. لكنه يتململ أكثر من مرة في فراشه، ليرى الرجل راقداً في فراشه، شاخصاً ببصره نحو السماء، فيلعن حظه التعس الذي ألقاه في أتون حرب لا ناقة له فيها ولا حصان. وفجأة، يئز سرير العربي، فيفتح دارو عينيه، ليراقب ضيفه يتحرك خلسة ليضع قدميه الغليظتين فوق أرضية الغرفة. يبتهج دارو وهو يرى العربي يفتح باب الغرفة في هدوء ويغادر. لكن خيبة الأمل تعود مع العربي بعد قليل لتحط في الفراش تارة أخرى حتى الصباح.
توقظ الشمس دارو، فيلتفت ليرى العربي يغط في نوم غليظ. يعد دارو الطعام بنفسه، بينما يراقبه ضيفه في توجس. وبعد أن يتناول الرجلان إفطارهما، ينطلقان نحو الجنوب. وبعد عدة كيلومترات، تدب أقدامهما فوق مفترق طرق، فيشير دارو نحو الشرق ويقول للعربي: “بعد ساعتين في هذا الاتجاه، تصل طنجة، حيث قسم الشرطة، وستجدهم في انتظارك هناك. أما إن قررت أن تتجه جنوباً، فسترى بعد مسيرة يوم واحد خيام بدو سيُحسِنون استقبالك. عليك أن تختار”. ثم يمد دارو يده بصرة فيها تمر وسكر وخبز تكفي العربي يومين كاملين، ويدس في يده ألف فرنك، ويدير ظهره وينصرف. وبعد خطوات، يدير الفرنسي المعلم ظهره نحو أسيره المحرر، فيجده جامداً في مكانه ينظر نحوه. ينهره دارو ويمضي في طريقه، ثم يختلس نظرة أخرى نحو العربي، فيجده قد اتخذ قراره نحو قسم الشرطة.
يعود دارو إلى مدرسته فوق الرابية في انتظار عقاب وشيك، ويدخل الفصل الذي ضمه وضيفيه الثقيلين ليقرأ رسالة على اللوح من أهل العربي المحرر: “سلمت ولدنا، فلتنتظر العقاب”. يعود دارو إلى التلة حيث بدأ المشهد الأول، فينظر تارة نحو الصحراء، وأخرى نحو السهل الأخضر، وأخيرة نحو السماء ويتنهد عميقاً. أخيراً، يدرك دارو أنه وحيد جداً.
القرار الوحيد الذي لم يستطع دارو إتخاذه أن يظل من دون قرار. لم يتخيل الرجل نفسه مجرد أداة لتنفيذ رغبة المحتل، ليجر عربياً قتل عربياً نحو سجن غير عربي. ما شأنه بهذا كله على أي حال؟ هو المعلم الذي أرادوا له التخلي عن منطق الأشياء ليمارس منطق المحتل فوق بلاد لا تشبهه. فليذهب المحتلون إلى الجحيم، وكذلك المتقاتلون باسم الحمق. لم يحاول دارو تقصي أسباب القتل، ما شأنه إن قتل زيد عمرو، أو أصاب سهم الحقد عين هابيل!
أما العربي الذي جاء إختياره مخيبا للتوقعات، والذي كان بوسعه أن يطلق ساقيه للريح هرباً من عينين نصف مغمضتين بعد أن انفتح باب الحرية على مصراعيه أمامه، فهو أعظم إدهاشاً وطرافة. لماذا آثر العودة في انتظار الترحيل؟ ولماذا اختار الشرق ولم يُكلّف قدميه المتورّمتين عناء الذهاب إلى الحرية؟ لماذا اختار أن يأكل ما في الصرة حتى يصل إلى مخفر المحتل حاسر الرأس خفيض الذنب؟ هل كان كامو يقرأ أسفار الغيب حين رأى العربي يرفض كل خيارات الحرية في انتظار السحل، أم أنها عادة عربية أصيلة أدركها كامو وغيره منذ عقود من القهر؟
تحتاج “غريب” كامو إلى القراءة مرات ومرات حتى نفهم قناعاته كلها، أو نهدم كل ما توصلنا إليه من تأويلات، سيما بعدما ألقى إبراهيم عيسى ب”غريب” آخر في دور السينما ليشغل الرأي العام بأطروحاته الجريئة التي نختلف حولها كثيراً ونجتمع على مشاهدتها رغم ذلك. في هذا الزمان الغريب، يبدو أننا على موعد مع الغرباء الذين يتحدثون بلغتنا وغير لغتنا ليعيدوا ترتيب منطق الأشياء في مساحة خلت من المنطق فترة تمتد من غريب كامو إلى غريب عيسى.

• عبد الرازق أحمد الشاعر أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى