نتنياهو يترك إرثاً مُقلِقاً سوف يطبع إسرائيل لوقت طويل بعد رحيله

سواءً أسفرت التحقيقات في الفساد عن عزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من منصبه أم لا، فإنه من دون أدنى شك قد ترك أثراً دائماً على السلطة التنفيذية والمعايير الإجتماعية في إسرائيل، وعلى النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.

أييلت شاكيد: من بين الوزراء الأكثر شعبية في إسرائيل

بقلم داليا شيندلين*

يبدو أن شبهات الفساد التي تحوم حول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تسلك منعطفاً حاسماً. ففي الثاني من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، أوصت الشرطة الإسرائيلية بتوجيه تهمة إليه في القضية الثالثة من أصل أربعة تحقيقات كبرى تجري ضده، الأمر الذي يزيد من إحتمال أن يعمد المدعي العام أفيخاي ماندلبليت، الذي يبدو موقفه من المسألة غامضاً، إلى إصدار قرار إتهامي بحقه. ويواجه نتنياهو إنتقادات حادة على خلفية إبرام صفقة غير مباشرة مع حركة “حماس” في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت لوقف العنف في الجنوب، ما أدّى إلى ترنّح إئتلافه؛ وقد إستُتبِعت هذه التطورات بموجة جديدة من الهجمات في الضفة الغربية في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الجاري. وفي الأسبوع نفسه، تحدّثت تقارير عن زيادات وشيكة في الأسعار الاستهلاكية للسلع الأساسية مثل الماء والكهرباء والمواد الغذائية، ما جعل نتنياهو مُعرَّضاً لخطر ظهور تململ إقتصادي. لا شك في أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يُتقن فن الصمود السياسي بعد فوزه في أربع دورات إنتخابية واستمراره في الحكم خلال العقد المنصرم. إنما من غير المرجّح أن يتمكّن من الخروج سالماً من كل هذه المعارك، ومن المحتمل حتى أن يخسر في الإنتخابات المقرر إجراؤها في أواخر العام 2019، والتي يُمكن أن تُقام في موعد أقرب.
لكن حتى لو سقط نتنياهو سقوطاً مدوّياً، فإنه سوف يترك وراءه إرثاً واضحاً في السياسة والمجتمع الإسرائيليين، وفي النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. على المستوى السياسي، بات نتنياهو رمزاً للإستقرار في بلادٍ معروفة بالفوضى في الحوكمة، مع إئتلافات متصدّعة بالكاد تتمكّن من إنهاء ولايتها. إنه من رؤساء الوزراء الأطول عهداً في تاريخ إسرائيل، فهو يحل ثانياً فقط بعد ديفيد بن غوريون الذي يتقدّم عليه بأشهر قليلة. وهو القائد الوحيد في تاريخ إسرائيل الذي ترأس إئتلافين إستمرا في الحكم لولاية كاملة تقريباً من أربع سنوات. وهذه ليست حقيقة عقيمة من دون تداعيات وعواقب؛ فقد يستنتج الإسرائيليون أن نوع القيادة الذي يُقدّمه نتنياهو هو الأفضل للبلاد.
يحكم نتنياهو عبر ترسيخ سلطته. لقد حكم البلاد لثلاث ولايات متتالية، وأربع ولايات في المجموع – وهذا الرقم أعلى من حدود الولايات المعهودة. وتولّى، في ذروة إنشغالاته، ست حقائب وزارية معاً بينها رئاسة الوزراء. تخلّى عن بعض الحقائب أحياناً، لكنه حالياً يتولى أربع وزارات كبرى: الدفاع، والخارجية، والصحة، واستيعاب المهاجرين (سابقاً وزارة الهجرة).
أقرّ الكنيست، في عهده، قوانين تُلحق الضرر بحرية التعبير (مثل قانون مكافحة المقاطعة وقانون النكبة)، وبالمجتمع المدني (عبر استهداف المنظمات غير الحكومية)، والحمايات الممنوحة للأقليات (مثل قانون لجان القبول الخاص بالجماعات الصغيرة). وقانون الدولة القومية الذي أُقِرّ في تموز (يوليو) الماضي – والذي، كقانون أساسي، له وضع دستوري – يُعرِّف إسرائيل بأنها دولة قومية إثنية حصراً، ويُقلّل من شأن حقوق الأقليات، ولا يأتي على ذكر المساواة. ومن جهتها، تنتمي وزيرة العدل في حكومة نتنياهو، أييلت شاكيد، إلى حزب “البيت اليهودي” القومي اليميني المتطرف، ومهمتها السياسية الأبرز هي العمل على إضعاف إستقلالية القضاء الإسرائيلي وتعزيز نفوذ السلطة التنفيذية والكنيست على المحاكم.
إن هذه القيم تترك بصمتها. تُظهر إستطلاعات الآراء أن شاكيد هي من بين الوزراء الأكثر شعبية في البلاد، على الرغم من أنها تتسبب باستقطاب شديد. على سبيل المثال، كشف إستطلاع آراء أجرته “بانلز بوليتيكس” في تموز (يوليو) الماضي، أنه في حال إنشقّت شاكيد عن حزبها وترشّحت بصفتها زعيمة الليكود، سوف يفوز هذا الأخير بعدد من المقاعد موازٍ لتلك التي يحصل عليها بقيادة نتنياهو. وفي كل إستطلاعات الآراء التي أُجريت خلال العام المنصرم، اختير نتنياهو الشخص الأنسب لتسلّم رئاسة الوزراء، بنسبٍ بلغت، عموماً، ما لا يقل عن ضعف الدعم للمرشح الثاني بعده. لقد فاز حزبه في جميع إستطلاعات الرأي العام تقريباً منذ الإنتخابات الأخيرة. يشعر الإسرائيليون بالرضى، فنسبة المجيبين الذين يقولون إن الأمور تسير على ما يرام سجّلت زيادةً مطردة منذ العام 2007، وفقاً لمؤشر الديموقراطية الإسرائيلية للعام 2018 الصادر في كانون الأول (ديسمبر) الجاري. (يحكم نتنياهو البلاد منذ العام 2009).
السياسات التي ينتهجها نتنياهو تجعله أقرب إلى القادة الشعبويين غير الليبراليين وشبه السلطويين في بلدان أخرى، وهؤلاء يتحولون إلى أصدقاء له. لقد أقام شراكات استراتيجية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وأظهر، في خطوة لافتة، تسامحاً تجاه الحكومة البولندية على الرغم من إساءتها إلى ذاكرة المحرقة (الهولوكوست). ولعلّها ليست مصادفةً أن الحكومة البولندية تسعى أيضاً، شأنها في ذلك شأن نظيرتها الإسرائيلية، إلى تقويض منظومتها القضائية. وقد زار نتنياهو أذربيجان التي تحكمها قيادة سلطوية، واستقبل الرئيس الفيليبيني رودريغو دوترتي، ونائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني. وترى الغالبية في هذه العلاقات تكتيكاً محنّكاً في السياسة الخارجية كي لا تعتمد إسرائيل حصراً على الولايات المتحدة وأوروبا الغربية – لا سيما بعدما إعتُبِر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من منتقدي السياسة الإسرائيلية، وعلى ضوء السخط الذي يُثيره الإتحاد الأوروبي لدى إسرائيل على خلفية توقعاته منها في مجال حقوق الإنسان. بيد أن العلاقات تذهب أبعد من السياسة الخارجية؛ فإضفاء شرعية على أشكال القيادة التي يمارسها أولئك الأشخاص يساهم أيضاً في منح شرعية لنمط الحكم الذي يمارسه نتنياهو في الداخل.
أبعد من الحوكمة، أحدثَ نتنياهو أيضاً تحوّلاً في المعايير الإجتماعية في إسرائيل. وفي حال توجيه الإتهام إليه في قضايا الفساد، ليس متوقَّعاً منه (ولا مفروضاً عليه) أن يستقيل – ما يُضفي شرعية على الفكرة القائلة بأنه بإمكان شخص فاسد أن يكون أيضاً رئيساً للوزراء يزاول مهامه. وهذا بعيدٌ كل البعد عما شهدناه سابقاً عندما استقال رئيس الوزراء اسحق رابين في ولايته الأولى بسبب مخالفة مالية صغيرة، كما أن المقاربة التي يعتمدها نتنياهو تتناقض، في الزمن الحالي، مع مقاربة إيهود أولمرت الذي قدّم استقالته – ربما بدافع الحاجة أكثر منه الرغبة – عندما باتت التحقيقات في شبهات الفساد سبباً للتشتّت الشديد وإلهائه عن مهامه. في حال توجيه الاتهام إلى نتنياهو أو حتى في حال إدانته، من شأن حزبه أن يحافظ على حظوظ عالية جداً بالفوز في الانتخابات المقبلة.
لقد أدّت الطريقة التي يتعاطى بها نتنياهو مع التحقيقات، إما إلى استحضار سرديةٍ من نوع الكلام عن دولة عميقة وإما إلى تضخيم هذه السردية، ما يؤجّج شعوراً سائداً منذ وقت طويل، بأن اليمين يتعرض، منذ زمن بعيد، للمعاناة والقمع والتقليل من احترامه وتهميشه على أيدي النخب الليبرالية. على امتداد التحقيقات، إدّعى نتنياهو، المتحدّر من أسرة نخبوية من القدس تنتمي إلى الشريحة الديموغرافية الأكثر حظوة في إسرائيل، أنه ضحية. فهو يبثّ بعضاً من الحيوية في الدعم التاريخي لليكود في أوساط الناخبين المزراحيين التقليديين، على الرغم من أن أصوله الأشكنازية (شأنه في ذلك شأن مناحيم بيغن) تُظهر أن هناك غلواً في السياسة الإسرائيلية في الحديث عن الانقسام الانتخابي”الإثني” اليهودي (بين الأشكنازيين والمزراحيين).
في هذه السردية، لا يهم أن اليمين أمسك بزمام السلطة في إسرائيل في القسم الأكبر من الأعوام الأربعين الماضية. منذ العام 1977، عرفت البلاد حكومتَين فقط يمكن تصنيفهما بالانتماء إلى اليسار وفقاً للمعايير الإسرائيلية: حكومة إسحق رابين وشمعون بيريز من 1992 إلى 1996، وحكومة إيهود باراك من 1999 إلى 2001. بيد أن نتنياهو زرعَ المفهوم القائل بأن المنظومة القضائية ككل تضطهد اليمين، وبالتالي، الجهاز الحكومي بكامله إما يساري وإما يجري التلاعب به. ويتحوّل القضاء مكسر عصا لجميع المشكلات التي تعاني منها إسرائيل؛ لقد نبّه نفتالي بينيت، وهو الخصم اليميني الأكثر جدّية لنتنياهو، من أن الجيش لا يمتلك القدرة الكافية للدفاع عن المواطنين عندما تكون يداه مكبّلتَين بالقيود “المقونَنة”، وهو يعتبر، على ما يبدو، أنه يجب تحرير العمل العسكري من جميع القيود القانونية.
عبر تقويض الثقة بالمنظومة القضائية، ينجح نتنياهو في تصوير مسألة الفساد بأنها تحقيقات مفبركة من قبل عصبة من المتآمرين الذي يضطهدونه لأنه يجسّد صوت الشعب الحقيقي. وفقاً له، تبذل قوى الظلام في اليسار جهوداً مسعورة للإطاحة به، بدعم من جهات خارجية تُضمر الشر ومن الأموال التي تُقدّمها هذه الجهات. والخلاصة أن الناخبين وحدهم يعرفون ما هو الصواب، وأن الضوابط والتوازنات، مثل استقلالية القضاء، أو المجتمع المدني – وغنيٌّ عن القول، وسائل الإعلام الانتقادية – هي على خطأ. يحلو لليمين الآن أن يحاجج بأن “اليسار نسيَ ما هي الديموقراطية”، في إشارة إلى أن “الديموقراطية الحقيقية هي حكم الأكثرية من دون ضوابط”.
تُضاف هذه المعايير السياسية والإجتماعية الأقل ديموقراطية إلى إرث نتنياهو في مسألة النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. ليست سياساته إستعراضية؛ فحتى المراقبين الذين ينتقدونه يُقرّون على مضض بأنه يُفضّل تجنّب الحروب الشاملة. وهو يُشدد على أن عدد المستوطنات التي أنشئت في الضفة الغربية، قليلٌ، في حين أنه أرسى شيئاً فشيئاً أسس الضمّ. في العام 2017، أقرّت إسرائيل قانوناً يُجيز فعلياً بناء مستوطنات على الأراضي الخاصة في الضفة الغربية. وفي كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، صوّتت اللجنة المركزية في حزب الليكود لمنح تفويض لقادة الحزب بغية دعم ضم الضفة الغربية، وتُطالب وزيرة العدل شاكيد وحزبها علناً بتطبيق القانون المدني هناك، وهو شكلٌ آخر من أشكال الضم. أخيراً، يضمن قانون الدولة القومية الصادر في العام 2017 أن إسرائيل ستكون دولة يهودية حتى لو انتهى بها الأمر بأن تُحكَم، بصورة مستمرة، من أكثرية مُحتمَلة غير يهودية.
مشقّات الحياة الشديدة التي يتكبّدها الفلسطينيون في المنطقة “ج” – أي المنطقة الممتدة على مساحة نحو 60 في المئة من الضفة الغربية والتي تقع تحت السيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي – تدفع بهم نحو الإنتقال إلى الفقاعات المعزولة في المنطقتَين “أ” و”ب” حيث يمارس الفلسطينيون حكماً ذاتياً في الشكل في أراضٍ مبعثرة في الضفة الغربية. الوعد الذي قطعه نتنياهو بـ”عدم بناء مستوطنات جديدة” لا معنى له إذا ما أخذنا في الإعتبار الزيادة في أعمال البناء داخل المستوطنات القائمة، وتمدّدها الجغرافي، والنمو في أعداد سكانها.
ونتنياهو ليس مسؤولاً عن ذلك فقط، فقد إنهار حلّ الدولتَين في عهده. كما أنه أرسى أسس المرحلة المقبلة: الضم الزاحف والتدريجي الذي يتم شيئاً فشيئاً، مع اجتزاء حقوق الفلسطينيين الذين يقفون حائلاً أمام هذا الضم. لا شك أن إسرائيل سوف تظل مطبوعةً بصورة نتنياهو بعد وقت طويل من رحيله.

• داليا شيندلين خبيرة في الرأي العام ومحللة في السياسات، تقدم نصائح واستشارات إلى حملات سياسية وإجتماعية في إسرائيل وعالمياً. لمتابعتها عبر تويتر: dahliasc@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى