هل الحقيقة حقًّا… “حقيقة”؟؟؟

بقلم هنري زغيب*

في كتابٍ عن نيتْشِه قرأْتُ أَمس أَنَّ “الحقيقةَ سلاحٌ جَـوَّال باستعارات وكنايات ومـَجَازات مُـرسَلَة وتَـجسيمات تشبيهية وثقافاتٍ إِنسانية مُطَرَّزَة على القياس بَلاغيًّا وشِعريًّا حتى لَــتَبدو، لـطُول استعمالها الـمتَكَرِّر، واقعيةً مُـتَــبَــنَّاة. من هنا أَنَّ الـحقائقَ أَوهامٌ جَــهِــلَ الناس مِن أَين جاءَت فَــتَــبَــنَّوها كما وَصَلَــتْهُم على أَنها حقائِق تامَّة”.
توقَّفتُ طويلًا عند عبارة نيتْشِه. صحيح: ما الـحقيقة؟ أَين هي؟ مَن يـحملُها؟ ومِن أَين؟ وكيف ينقُلُها؟ هل هي واحدة؟ وهل مِن حقيقةٍ واحدة؟ وتذكرتُ مقولة ﭘـاسكال: “الحقيقةُ أَمام جبال الـﭙـيرينيه، ضَلالٌ خَلْفَها”، أَي هي تَـختلف وَفْقَ المكان والزمان والأَشخاص ووضْعهم وتَـمَوضُعهم، وليست واحدة في كل مكان.
إِذًا لا يـُمكن القول عن “حقيقة” مطْلقة، طالـما هي تـختلف بين حقيقةٍ نسبيَّة وحقيقةٍ مغلَّفة وحقيقةٍ مَـخفيَّة وحقيقةٍ مقَـنَّعة وحقيقةٍ دﭘــلوماسية وحقيقةٍ موَقَّتة وحقيقةٍ تامَّة، ويَـمضي العقل منها جميعًا يَـحكُمُه الظرفُ والقائِل والـمناسبة والـمُـتلقِّي.
وأَكثر: أَتكون الـحقيقةُ هكذا أَيضًا عند القول عن “الحق”؟ وهل عندئذٍ تكون من العقل أَم من الإِيمان؟ “… فأَمَّا الذين آمَنوا فيَعلَمون أَنه الحقُّ من ربِّـهم” (سورة البقرة – 26) … “الـحقَّ الـحقَّ أَقُولُ لَكُم: مَنْ يُؤْمن بي لَهُ الـحياةُ الأَبدية” (إِنـجيل يوحنَّا – 47:6).
أَهبط من الروحانيات العالية إِلى الأَرضيات البالية: سياسيٌّ يصل إِلى الحكْم باقتراع 51% فقط من مـجموع شعبه، هو قانونـيٌّ لكنه غيرُ شرعيّ. قانون الانتخاب أَتى به في التصويت القانوني الصحيح، لكنه غيرُ شرعيٍّ في تَـمثيلِه شعبَه كاملًا، فهو إِذًا لا يُـمثِّل بلادَه بل مُقترعيه، وهو ابنُ حقيقةٍ نسبيَّةٍ مغلَّفةٍ موقَّتةٍ غيرِ تامَّة. والـحقُّ هنا ديموقراطيٌّ مَـبدئِـيٌّ غالبًا ما يكون هشًّا لأَن الـحقيقة الشعبيَّة قد تُطيحُه في أَيِّ وقت.
أَين الحقُّ إِذًا؟ وأَين الحقيقة؟
أَعودُ هنا إِلى عبارة نيتْشِه أَنَّ “الـحقائقَ أَوهامٌ جَــهِــلَ الناسُ مِن أَين جاءَت فَــتَــبَــنَّوها كما وَصَلَــتْهُم على أَنها حقائق تامَّة”. ويأْخُذُني قولُه إِلى الأَساطير القديمة (يونانيِّها ورومانيِّها وفينيقيِّها وميزوﭘُّــوتاميِّها) ومعظَمُها تواصَلَ حتى دخلَ مُشْتَــرَكًا في معتقداتٍ لاحقةٍ وتقاليدَ طقسيةٍ راهنة على أَنها “حقائق” مُتوارَثَة، فيما هي كما وصفَها نيتْشِه: “ثقافاتٌ إِنسانيةٌ مطرَّزةٌ على القياس بَلاغيًّا وشِعريًّا”.
خلاصةُ تَـجربتي الذاتيَّة بِعَقلي وإِيــماني: إِن كان من جامعٍ واحدٍ موَحَّدٍ أَوحدَ وحيدٍ للحقيقة التي هي الـحقُّ، فهو الـحُبّ. وأَعني هنا الـحُبّ الحقيقيّ الذي لا إِشراكَ فيه مع الذات الـحبيبة ولا شريكَ لها فيه. وهو غيرُ الـمحبة التي لا تُقيم إِلَّا في الإِشراك والـمُشاركة.
في الـحُبّ الحقيقيّ تُقيم الـحقيقةُ الـمُطلَقَة، وهذه لا تُعطى إِلَّا مَرَّةً واحدةً في العمر للعاشقين والـمتصوِّفة.
وهؤُلاءِ هُمُ النسّاكُ في هياكل الـحُبّ، الـمُنَوَّرون به الـمُنَوِّرون، الـمُـغَــرِّقُون في العبادة، الـمُنْـصرفُون إِلى الـتَـعَــبُّـد، الـمُستَحقُّون نُورَ الـحقِّ وإِشراقَ الحقيقة.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى