بين باريس وبيروت: أَيُّ مئَويَّة لأَيِّ حَرب؟

بقلم هنري زغيب *

زعماءُ العالم الذين اجتمعوا تحت خيمة قوس النصر عند ناصية الشانزيليزيه في باريس، متجانِــبِين متصالِـحِين متهادِنِين، لم يحتفلوا بالمئوية الأُولى لنهاية سنواتِ حربٍ سوداء، بل بسنواتِ سلامٍ بيضاء مُسْبَقَة لِلمئوية الثانية.
في 11/11/1918 كانت هدنةٌ طَوَت أَربع سنواتٍ كلَّفت العالَـم ملايين قتلى وجرحى ومشوَّهين ومعاقين، وفي 11/11/2018 إجتمع زعماءُ دولٍ كانت قبل مئة سنة قاتِلةً متقاتِلةً مقتَــتِلةً، فلم يحتفلوا بـمئَوية هدنة الحرب بل برمزية تَـهَادُن السِلْم.
في تلك الحرب الفاجعة إنسحق لبنان بِـوَيلات الموت مجاعةً وتَشرُّدًا ورعبًا، زيدَت على حُكْمِ العثمانيين بَــرًّا وتَـحَكُّمِ الأُوروﭘــيين بـحرًا، حتى قضى ثلثُ شعبِنا طريحَ الطرقات جوعًا وفقرًا وتَشَرُّدًا وتَضَوُّرًا في زوايا مُقْفرةٍ إِلَّا من معذَّبين يَـموتون مشدُوهي العيون.
قلتُ “إنسحَقَ لبنان” لأَنه فترتَئِذٍ لم يكن مالكًا أَمرَه ولا حُكْمَه ولا قرارَه، فعانى من ظُلْم السوى وتلوَّى قهرًا وعذابًا مُضْنيًا. ومع أَنه اليوم، بعد مئَة سنةٍ على المجاعة، مالِكٌ أَمرَه وحكْمَه وقرارَه، ما زال ثُلثُ شعبنا على شفير الفقر ويكاد ينزلق إِلى هُوَّةِ المجاعة، وفيه مَن يَـبـحث في مستودعات النفايات والقمامة عن لُقمة مغمَّسة بالموت.
اليوم، بعد مئة سنة على المجاعة، ما زال لبنان مُهدَّدًا بِـمجاعات الهواء الملوَّث والبحر الوسخ والكهرباء الغائبة وفُرص العمل المقْفَلة وسائِــر ما يعانيه لبنان اليوم من أَهوالٍ هي طبعةٌ عصرية لويلات 1914.
لماذا يخجل اللبنانيون اليوم من إستذكار تلك المئَوية؟
أَلأَنهم يستحون بهذا الماضي الأَسود في تلك الحرب السوداء؟
هل يرفضون الإتّعاظ مما كان، حتى أَلغوا ذكرى شهداء في 6 أَيار رفضُوا الهيمنة العثمانية ونادَوا بأَيِّ مَن يمكن أَن يُنقذ بلادهم من المجاعة فالموت ولو كان إنتدابًا مفروضًا في ما بعد؟
هذا الذي يَـجري اليوم على شعبنا، بِـمَ يختلف عن جَراد 1914 الذي أَكَلَ الأَخضر واليابس وحَرَمَ شعبنا من حبة القمح؟
كيف نشرح لأَولادنا أَنَّ الذي عاناه لبنانُ الأَمس من “سفَر برلك” قسْريٍّ أَفرَغَ الوطن من شبابٍ اقتيدوا ولم يعودوا، ما زال لبنانُ اليوم يعانيه تمامًا في “سفَر برلك” طَوعيٍّ يُفْرِغ لبنان من نخبة شبابه الذين يقتادون مصيرهم بأَيديهم ولن يعودوا؟
مأْساتُنا ليست “ما جرى” في بلادنا قبل مئَة عام، بل “ما يجري” اليوم وكلَّ عام. وإِذا كان اللومُ بالأَمس على حكَّامٍ من الخارج تَسلَّطوا على شعبنا، فاللَومُ اليومَ على حُكَّامٍ من الخوارج يتسلَّطون على شعبنا متحكِّمين بـمصيره الغامض ومستقبله الـمجهول.
زعماءُ العالم إجتمعوا متقاربين تحت خيمة قوس النصر فاحتَفَلوا بنصر السِلْم على الحرب، وفي لبنان زعماءُ متباعدون بـما يُشبه الحربَ على السلْم طالَـما أَنَّ بينهم مستعدِّين لتجويع بيروت طويلًا… طويلًا كي يُشْبِعوا شهوةَ زعاماتهم.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى