إقتصاد الحرب في سوريا يُفاقِم الإنقسام والشرخ بين الأغنياء والفقراء

“إستمرار الإقتصاد بوسائل أخرى”، بهذه الكلمات عرّف أحد الباحثين إقتصاد الحرب. ويعتبر “مركز بيرغوف للأبحاث” (Berghof Research Center ) أن ما يُميّز إقتصاد الحرب، وبخاصة في الحروب الأهلية حيث تكون الحكومة والمتمردون طرفَي النزاع، “أن الأمر ينطوي على التحايل على الإقتصاد النظامي وتدميره، وتنمية الأسواق غير النظامية والسوداء، وسيادة السلب، والإبتزاز، والعنف المتعمّد ضد المدنيين من قبل المُقاتلين لاكتساب السيطرة على الأصول المربحة، واستغلال اليد العاملة. كما أنه إقتصاد يتّسم باللامركزية، ويزدهر فيه الإعتماد على التهريب، واستغلال الأقليات من السكان”. وهذا ما يبدو أنه جرى وما زال يجري في سوريا.

أيمن جابر: تحت الإقامة الجبرية في اللاذقية

بقلم داني مكي*

تقول مقولة دمشقية قديمة: “نصف الألف هو 500”. وعادة ما يتم قولها للسخرية أو توضيح ما هو واضح أو إعادة شخص ما إلى الواقع. وهذا ليس أمراً سهلاً دائماً في الأراضي السورية التي تقع تحت سيطرة الحكومة حيث يُمكن تشويه الحقائق، لكن أصبح من الواضح أن هناك مشكلات آخذة في الظهور لم يعد من الممكن تبريرها بحجة الحرب.
يعيش أكثر من 80٪ من سكان سوريا اليوم تحت خط الفقر. ويبلغ معدل البطالة في البلد 55 في المئة على الأقل، ويصعب العثور على فرص عمل بشكل متزايد. لقد تسبب النزاع في خسائر إجتماعية واقتصادية باهظة على السكان، وهذا هو الآن عاملٌ مُحفّز للسخط المتزايد في صفوف الموالين. وفيما يبدأ الجيش عملية تسريح بطيئة ولكن ثابتة، فإن إعادة دمج الجنود المُسرَّحين في الحياة المدنية وخلق فرص العمل أمرٌ صعب بالنسبة إلى الحكومة.
ينتمي أحد المقاتلين، الذي وافق فقط على أن يتم مناداته “سالم”، إلى المجموعة 201 في جيش الإحتياط، والتي تم تسريح عناصرها قبل ثلاثة أشهر بعد سبع سنوات من الخدمة المستمرة. إشتكى سالم: “لقد وعدتنا الحكومة بتوفير الوظائف لنا، لكننا ما زلنا ننتظر. حتى لو حصلنا على الوظائف كما وُعِدنا، فإن الراتب منخفضٌ للغاية لكي نعيش بشكل جيد”.
لقد أعادت الحرب تنمية البلاد إلى الوراء لعقود. يُقدر البنك الدولي أن هناك حاجة إلى حوالي 200 مليار دولار لإعادة بناء المدن السورية المُدمَّرة وحدها. ووفقاً لكمال علم، المحلل السوري في “المعهد الملكي للخدمات المتحدة” (Royal United Service Institute): “هذا يعني حقيقة أن سوريا تُعاني. وعلى الرغم من التجارة التي تقوم بها الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والتجار المحليين إقليمياً مع العراق ولبنان، إلا أن ذلك لم يساعد على تخفيف حدة الفقر والبطالة. ومع الدمار الهائل وعدم الإستقرار الإقتصادي، لا يزال السوريون يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة”.
تحتل سوريا المرتبة الرابعة في قائمة أكثر الدول فساداً في العالم، وأصبح الحصول على وظيفة في دمشق أمراً صعباً بشكل متزايد من دون واسطة أو محسوبية. وكتب أحد الموالين بخيبة أمل على حسابه على فايسبوك: “من دون واسطة في هذا البلد، قد نتوقف أيضاً عن العيش”.
كما أدّت الخدمات الحكومية الضعيفة والإجراءات الروتينية المُفرطة والإقتصاد الراكد إلى إثارة مشاعر الإستياء بين السكان. في العام 2017، إنتقد الممثل بسام كوسا الدوائر الحكومية، واصفاً إياها بـ”مؤسسات لجمع الأموال فقط”. وأدى هطول الأمطار الغزيرة في دمشق في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت إلى حدوث فيضانات على نطاق واسع مع إنهيار شبكة الصرف الصحي السِّيئة الصيانة وإغلاق الطرق الرئيسية لأيام عدة. ووُجِّهت إدعاءات بالفساد إلى محافظة دمشق، المسؤولة عن أعمال الصيانة، ولاحظ الناشط رامز صالحة أن “غالبية الطرق بين الشعب والحكومة قد قُطعت أيضاً، حتى نصل إلى إتجاه نهائي”.
قبل العام 2011، كان ما يصل إلى 80 في المئة من الإقتصاد السوري يعتمد على الشركات الصغيرة والمتوسطة. أما الآن ، فقد تغيّر الميزان ومعظم ثروة سوريا تُهيمن عليه شبكات أعمال مرتبطة بالشخصيات المثيرة للجدل مثل رامي مخلوف وسامر الفوز، اللذان أصبحا لاعبين رئيسيين في الإقتصاد، حيث تراوح مقتنياتهما من تكرير السكر والصلب إلى المستحضرات الصيدلانية والعقارات.
وفي الوقت الذي تكافح غالبية السكان، تواصل نخبة رجال الأعمال في البلاد تنمية إمبراطورياتها، مُشكِّلةَ إحتكاراً مشكوكاً فيه على ما يقدر بنحو 75 في المئة من الإقتصاد. بالنسبة إلى رجال الأعمال مثل “الفوز”، فإن الإقتصاد الحربي له مزاياه ، مثل عدم وجود منافسة. وقال لصحيفة وول ستريت جورنال: “لقد عملت لمدة أربع سنوات من دون منافسة على الإطلاق”.
ويأتي هذا التركيز المتزايد للثروة في وقت تعرّضت عملة البلاد لضغط شديد، مع إنخفاض قيمة الليرة السورية بنسبة تزيد على 90 في المئة إلى حوالي 512 دولاراً حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، مقابل إنخفاض قياسي بلغ 44% في العام 2010. كما إرتفعت الأسعار عشرة أضعاف، لكن الأجور بقيت على حالها.
سعى رجال الأعمال الجدد في سوريا ليس فقط إلى حماية مكاسبهم، ولكن أيضاً لبناء دعم شعبي من خلال مبادرات مختلفة. على سبيل المثال، قضت “سوريا تل”، وهي إحدى الشركات الرئيسية التي يسيطر عليها مخلوف، معظم الأزمة في توظيف المزيد من العمال، حيث وصل العدد إلى حوالي 3500. وكانت الشركة، التي تعد واحدة من إثنتين فقط من مزودي خدمات الإتصالات في سوريا، تجلب موظفين جدداً كطريقة لإثبات ولائها والإظهار بأن “العمل يسير كالمعتاد” في البلاد.
خلقت الحرب فرصاً جديدة للربح أيضاً، وانتشرت أعمال السلب والنهب على نطاق واسع. لقد وجدت معادن مسروقة، مثل النحاس والمواد الخام الأخرى، طريقها إلى أيدي شركات تسيطر عليها النخبة. وزُعم أن المعادن المسروقة والمواد المنهوبة بيعت إلى شركات مثل سوريا للحديد، التي تديرها مجموعة حمشو، ثم أُذيبت واستُخدمت لصنع الأسلحة في مصانع محلية. كان نهب المناطق التي استولت عليها الحكومة سبباً في غضب وإحباط كبيرين. ووصف الصحافي في مدينة حلب، رضا الباشا، النهب بأنه “مُخجل” و “مُحرِج”.
لقد خلق إقتصاد الحرب ثروات جديدة ومكّن الأعضاء الجدد من الإنضمام إلى النخبة في البلاد، مثل حسام قاطرجي، الذي اكتسب سمعة سيئة باعتباره وسيطاً تاجر بالنفط والحبوب في مثلث بين الأكراد، و”داعش”، والحكومة السورية. ويزعم أنه كانت لديه تعاملات تحت الطاولة مع “داعش” في شمال شرق سوريا، ويسَّر شراء القمح لإطعام المدنيين المحاصرين في دير الزور، حيث باعه إلى الحكومة السورية بتكلفة كبيرة. وانتُخِب لاحقاً عضواً في البرلمان السوري في العام 2016.
إن الأموال التي تكسبها النخبة السورية بهذه الطريقة عادةً ما تعود لتصب في مجهود الحرب لتمويل ميليشيات تُقاتل من أجل النظام. على سبيل المثال، إتُهِم الفوز بتمويل قوة شبه عسكرية تابعة للمخابرات العسكرية السورية، “قوّات درع الأمن العسكري”. ويُعتقد أن هناك مجموعات أخرى من الميليشيات مثل “جمعية البستان” لديها روابط تمويل قوية مع مخلوف.
مع تنامي الغضب من الوضع الحالي وأصبح الرأي العام أكثر سخونة، هناك إشارات تدل على أن الحكومة قد تتخذ إجراءات – سواء للترويج لمصالح النخب أو لإظهار إستعدادها لمحاربة الفساد. على سبيل المثال، تم وضع تاجر النفط وقائد الميليشيا أيمن جابر رهن الإقامة الجبرية في اللاذقية في شباط (فبراير) 2017 وسط مزاعم بالفساد، على الرغم من تزعمه لميليشيا خاصة تضم 12 ألف مقاتل تعرف ب”صقور الصحراء” وحمله الجنسية الروسية. أيضاً في العام 2017، إستولت الحكومة السورية على أموال وأصول عائلة الغريواتي، وهي واحدة من العائلات الأكثر ثراءً ونفوذاً في البلاد.
إن الحجم الهائل لإنقسام الثروة في الأجزاء التي تسيطر عليها الحكومة السورية لا يمكن أن يستمر في المدى الطويل. وطالما بقيت الوظائف شحيحة والرواتب غير كافية، فإن الغضب من الحكومة سوف يتصاعد. الآن وقد انتهى الصراع المسلح في معظم مقاطعات البلاد، لم تعد الحرب عذراً للحكومة. وستكون جميع الشؤون الداخلية والإجراءات الحكومية تحت المجهر، حيث تتوقع الأقسام الموالية للنظام من السكان تحسينات ملموسة في نوعية حياتها وتقليل الفساد المستشري. ومع زيادة التركيز على العناصر غير السياسية في الصراع، من المرجح أن يستمر الإنشقاق في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في الزيادة إلى أن تتحسن حياة السوريين ويصبح توزيع الثروة أكثر إنصافاً.

• محلل وخبير في الشؤون السورية ومستشار إستراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى