إلهان عمر.. وعيٌ محتمل، وخوفٌ مبرر

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

أستميح الراقصين في مولد السيدة “إلهان عمر” أن أضع حشوتين من القطن في أذني كي لا يؤثر طنينهم المُزعج على قدرتي على الفهم والحكم. فقد تعلّمت طوال عمري أن أقف من المٓشاهد موقف المتأمل المرتاب، قبل أن أضع أصابعي في حبر الواثقين الفوسفوري. فدخول السيدة إلهان إلى ساحة الكونغرس الأميركي كأول نائبة مسلمة مُحجّبة ليس فتحاً لحصون الروم ولا انتصاراً لقِيَم العدالة والحرية كما يحلو للبعض أن يُصوّر، وإن كان يمثل بعضاً من التغيّر المحمود في مفاهيم الناخب الأميركي العنصرية.
إلهان عمر الطفلة إضطرت تحت جحيم الحرب الأهلية إلى مغادرة أرضها وديارها في الصومال لتُقيم في المخيمات الكينية مع أسرتها وآلاف الأسر النازحة، لتعاني الأمرّين في خيام لم ترتقِ أبداً إلى مستوى الإنسانية. وهناك، لم تستطع إلهان أن تلقى حظاً من التدليل يليق بسنواتها العشر وكونها الطفلة الصغرى. وبعد أربع سنوات من المعاناة، تشاء العناية الإلهية أن تستجيب لكفّي إلهان الصغيرين فتنتقل للإقامة في ولاية مينيسوتا الأميركية مع أسرتها. وهناك، يتجلّى نبوغ الفتاة اليافعة فتتعلم اللغة الإنكليزية في أشهر معدودات، وتعمل كمترجمة لمؤتمرات جدها المحلية. ومع نهاية عقدها الثالث، تستطيع الصومالية الطموحة الحصول على بكالوريوس في العلوم السياسية وآخر في العلاقات الدولية من جامعة “نورث داكوتا” لتدخل عالم السياسة من أوسع أبوابه.
واليوم، يُصفّق النواب الأميركيون لامرأة إستطاعت أن تُغيّر كل شيء فيها وحولها إلا لون بشرتها الداكن، وحجابها الذي بالكاد يستر جيدها، لتقف على ساقين من أمل، وتشكر أهالي مينيسوتا الطيبين، الذين أستطاعوا أن يحتضنوا بطة صومالية عرجاء ويدفعوا بها نحو قبة البرلمان في تحدٍّ صارخ لميول رئاسية عنصرية تزدري العرب والمسلمين وتسيء إليهم في كل محفل.
الصورة حتى الآن وردية مخملية، والآمال عريضة بحجم محيط الخراب الذي يُقسّم العالم إلى هاويتين. فها هي الفتاة التي تعرَّضت للضرب على يد ثلة من العنصريين في العام 2014، ترفع يمينها كتمثال حرية في زمن القهر وتُبشّر بمجتمع خالٍ من العنصرية والإسلاموفوبيا والكراهية. وكعارضة أزياء مُدهِشة، تسير إلهان في خطوات مُتناسقة لترصدها أعين الكاميرا في شبقية لا تخطؤها عين، لتتكفل بعمل دعاية مدفوعة لمن شارك أو بارك أو سمح أو صمت على دخولها قاعة الكونغرس. ولا أعرف لماذا يُذَكِّرُني المشهد بمُتَسَلِّقي جبال “إيفيرست” الذين تدفع لهم الشركات المصنعة آلاف الدولارات مقابل الدعاية لمنتجاتهم.
أخشى أن تتحوَّل عرّابة العروبة إلى خنجرٍ مسموم يندفع تحت الخاصرة. وأخاف أن يتحوّل الرمز إلى غواية تستهوي الطيبين ممن تخدعهم سرعة الخيل وألوان القبعات، فيمتدحون مهارة الغازي في إطلاق الرصاص ويشمئزون إن حمل أبناء البلاد الأسلحة البيضاء دفاعاً عن أكواخهم ومعتقداتهم. وأريد هنا أن أتّفق مع علمانيي الشرق على أن الحجاب لا يعني الفضيلة، والبشرة السوداء لا تدل بالضرورة على نقاء السريرة. ولو كان الإسلام يعرف بالحجاب، لما تراجع المسلمون إلى هذا الدرك المُخزي من جهل وتخلف واقتتال.
الغريب أن أصحاب الرأي هنا والذين يُهلّلون لانتخاب إلهان هناك هم أنفسهم الذين يُحاربون ارتداء الحجاب هنا، في ازدواجية مُنكرة لحقوق إنسان لم يعد من حقه ممارسة حرياته إلا في الشتات. أخشى أن يُستغل وجود إلهان وصاحبتها رشيدة طليب في أروقة الكونغرس في الترويج لعنصرية بغيضة ضد العرب والمسلمين، وأن يتم تحت سمعهما وبصرهما تمرير أشد القوانين إثارة للكراهية في تاريخ الشعوب.
أذكر أن نجاح امرأتين مسلمتين دفعة واحدة في اجتياح عتبات الكونغرس أمر يثير الإعجاب ويحفز الأمل، ولولا خوفي مما قد تسفر عنه تلك الخطوة من لبس غير منطقي أو مبرر بين تاريخ المرأتين وأسس العقيدة، وبخاصة بعد قراءتي لمقالاتٍ تُحاول النيل من عرض إلهان، وتتناول علاقاتها السابقة، لكنت أول المصفقين لتلك الإفاقة المتأخرة لوعي أميركي مُحتَمَل.

• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى