إرتفاع ثقة الرأي العام بالجيوش العربية يُنذِر بعدم الإستقرار

إن ازدياد الثقة التي يمنحها الرأي العام للجيوش العربية على حساب الحكومات المدنية ربما يؤشّر إلى خلل ما في العلاقات المدنية -العسكرية، ويُنذر بعدم إستقرار وشيك.

الرئيس عبد الفتاح السيسي: ثقة الشعب المرتفعة بالجيش أوصلته إلى الحكم

بقلم نيكولاس لوتيتو*

ساهمت الحروب الأخيرة في العراق وليبيا وسوريا في دفع مستوى الإنفاق على الدفاع في المنطقة – وهو الأعلى في العالم – نحو معدلات مرتفعة جداً. فقد أدّت الصفقات الضخمة الجديدة لشراء الأسلحة، بقيادة الأنظمة الملَكية الغنيّة بالنفط في الخليج العربي، إلى زيادة الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط إلى نسبة 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2016، مقارنة بالمعدّل العالمي الذي يبلغ 2.2 في المئة فقط. وفي حين أن العافية المالية القوية للمؤسسة العسكرية تُقدّم مؤشراً إيجابياً عن المعركة ضد الإرهاب، فإنها ساهمت أيضاً في بلوغ الثقة العامة بالمؤسسات العسكرية مستوى غير مسبوق، مع 81 في المئة في العام 2016، وفقاً لـ«الباروميتر العربي». على النقيض، تستمر الثقة بالحكومات المدنية في التراجع – من 54 في المئة في العام 2010 إلى 38 في المئة في العام 2016 – ما يولّد هوّة في الثقة تُهدّد التوازن المدني – العسكري الدقيق في المنطقة.
تُظهر البيانات التي جمعها «الباروميتر العربي» كيف اتّسعت هذه الهوّة منذ انتفاضات «الربيع العربي» التي عمّت المنطقة. فاعتباراً من العام 2011، طلبت هذه الأداة الإستطلاعية من المجيبين تسجيل مستوى ثقتهم بالمؤسسات العامة المختلفة، منها الحكومة والقضاء ومجلس النواب والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية والقوات المسلحة والمجتمع المدني. في الموجة الرابعة من الإستطلاع، التي أُجريَت في 2016-2017، حلّت المؤسسة العسكرية الأولى بين المؤسسات على صعيد الثقة بها، وذلك في جميع البلدان تقريباً التي شملها الإستطلاع. وكانت الثقة بالأجهزة الأمنية أقل نسبياً، في حين جاءت الحكومة، في معظم الأحيان، في المرتبة الأدنى.
مع تحرُّك الجيوش العربية للرد على الأزمات في الداخل والخارج، وانكفاء الحماسة العامة لتغيير الأنظمة، يستمر التشاؤم حيال المشكلات الإقتصادية والأمنية في المنطقة. لقد أعرب أقل من نصف المُجيبين بقليل عن ثقتهم بأن الحكومة ستتمكّن من معالجة التحدّيَين الأكبر في غضون السنوات الخمس المقبلة. على سبيل المثال، أجمع 84.7 في المئة من المجيبين على أن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داغش) يُشكّل “تهديداً خطيراً جداً” للمنطقة العربية على الرغم من الجهود الدولية المتواصلة لإلحاق الهزيمة به. لكن مع اشتداد عدم الأمان في المنطقة في الأعوام الأخيرة، تعزّزت أيضاً الثقة بالجيش. في العام 2016، أعرب 88.3 في المئة من المجيبين عن ثقتهم بالقوات المسلحة في بلادهم. يُسجّل هذا الرقم اللافت زيادة بنسبة 6 نقاط مئوية في تلك البلدان منذ العام 2011.

على الرغم من أن «الباروميتر العربي» يتضمّن عيّنة متنوّعة من الدول العربية، إلا أنه لا يُمكن إجراء الاستطلاع إلا في البلدان التي حافظت على مستوى مناسب من الأمن على الرغم من الصراعات الأخيرة في المنطقة. في هذه البلدان التي تنعم باستقرار نسبي، ثقة المواطنين بالجيش ناجمة، على الأرجح، من تقديرهم للإستقرار الداخلي في وجه انعدام الاستقرار على الصعيد الإقليمي. فقد استخدمت القوات المسلحة في عدد كبير من الدول العربية نجاحاتها لتحسين علاقاتها العامة، وروّجت في هذا الإطار لمساهماتها في مجال الأمن القومي. على سبيل المثال، تتبجّح القوات المسلحة الأردنية بروابطها مع الجيش الأميركي الواسع النفوذ، وتبثّ رسائل إيجابية من خلال المحطة الإذاعية التابعة لها، واللوحات الإعلانية التذكارية، وصور «البروفيلات» عبر مواقع التواصل الإجتماعي.
يُقدّم الأردن المثال الأبرز عن هذه النزعة. فقد حافظت المملكة على استقرارها الأمني عموماً على الرغم من تدفّق أعداد كبيرة من اللاجئين إليها، وموقعها في جوار العراق وسوريا اللذين تمزّقهما الحرب. فالعاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، الذي تدرّج بصفة قائد مروحية في القوات الخاصة، إستخدم أوراق اعتماده العسكرية من أجل حشد الدعم الشعبي للجيش والنظام، وارتدى زيّه العسكري ليقود رمزياً الهجوم المضاد على أهداف تابعة ل»الدولة الإسلامية» في العام 2016، على أثر إعدام الطيّار الأردني الأسير معاذ الكساسبة. وبعدما كانت الثقة بالجيش الأردني تبلغ نسبة مرتفعة مع 87.6 في المئة في العام 2010، سجّلت زيادة إضافية لتصل إلى 97.9 في المئة في العام 2016. أما الثقة العامة بالحكومة، والتي كانت في الأصل أدنى بكثير، فقد تراجعت بمعدل عشرين نقطة مئوية في الفترة نفسها لتصبح 53.6 في المئة فقط. منذ إجراء الاستطلاع، توسّعت سريعاً الإحتجاجات ضد التقشف في حزيران (يونيو) 2018، ما دفع برئيس الوزراء هاني الملقي إلى الاستقالة، في مؤشر إضافي عن تراجع التأييد الداخلي للحكومة. 
حتى في غياب السياسة الديموقراطية، فقد تؤثّر المواقف العامة من الجيش في السلوك السياسي للجنود. في أواخر العام الماضي، سرت شائعات عن تورُّط ضباط عسكريين كبار في مؤامرة إنقلابية ضد الملك. وفي حين نفى المسؤولون الشائعات، سلّطوا الضوء على موقع الحكومة الهش بالمقارنة مع القوات المسلحة الأردنية. وعلى الرغم من أن الرأي العام الأردني يُبدي دعماً مستمراً للديموقراطية (شأنه في ذلك شأن الرأي العام العربي عموماً)، إلا أن المواطنين قد يبدأون بالترحيب بتدخّل عسكري أوسع نطاقاً في السياسة مع اتّساع الهوة في ثقتهم بكل من القطاعَين المدني والعسكري.
يستمر الجيش، في مختلف أرجاء المنطقة، في ممارسة قوة إكراهية شديدة في السياسة الداخلية. لقد تراجعت وتيرة الانقلابات العسكرية التي كانت رائجة في الشرق الأوسط في ما مضى، وباتت نادرة الآن. لكن في منطقة ترزح تحت وطأة الاضطرابات الداخلية والإرهاب والحرب الأهلية، يتعيّن على الأنظمة السياسية العربية الإعتماد على القوات المسلحة لحفظ النظام. وبإمكان الجيش أن يستخدم هذا النفوذ، سواءً من طريق التهديدات المفرطة أو الضغوط الناعمة، للدفاع عن السياسات المفضَّلة لديه أو الإبقاء على الوضع السياسي القائم. 
لقد أعاد «الربيع العربي» الجيش إلى الواجهة من جديد، مُسلِّطاَ الضوء على الدور المحوري الذي تؤدّيه العلاقات المدنية – العسكرية في الحفاظ على الوضع السياسي القائم. ففي بلدٍ تلو الآخر، تُرجِم التململ الاقتصادي والاجتماعي والدعم الواسع للديموقراطية، إلى تعبئة جماهيرية غير مسبوقة ضد النخبة السياسية الراسخة والمتجذّرة في مواقعها. وقد أظهرت الإنتفاضات أنه بإمكان سلوكيات الرأي العام أن تُقرّر مصير الأنظمة المدعومة من الجيش؛ إلا أنه لا يمكن تحقيق الإنتقال الديموقراطي من دون الحصول على الدعم، أو أقله القبول،  من القوات المسلحة.

تُقدّم الموجة الثانية من إستطلاع «الباروميتر العربي»، التي أُجريَت بين كانون الأول (ديسمبر) 2010 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2011، لمحة سريعة عن السلوكيات العامة قرابة مرحلة «الربيع العربي». في تونس ومصر، كانت ثقة الرأي العام بالقوات المسلحة بعد العام 2011 منسجمة مع الأسلوب غير العنفي إلى حد كبير الذي تعامل به الجيش مع الإحتجاجات. في البداية، أتاح الجيشان التونسي والمصري مجالاً أمام انتشار الديموقراطية، لكن سرعان ما سلك كل منهما مساراً سياسياً مختلفاً. تُواصل تونس، في الوقت الراهن، تجربتها الديموقراطية في ظل رئيسها الثاني المُنتخَب بحرية. أما الدمقرطة في مصر فتعطّلت بفعل إنقلاب عسكري في العام 2013. فقد وُضِع الرئيس محمد مرسي في السجن، واستولى القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح السيسي على السلطة، وفرضَ سلطويةً شديدة، مع حفاظه على نسب تأييد عامة تتخطى 80 في المئة. وقد أُتيح ذلك لأن أكثرية موالية للجيش محضت ثقتها للضباط العسكريين كي يقودوا المرحلة الإنتقالية في البلاد.
على الرغم من هذا التباعد في المسارَين، فقد إستمر التونسيون والمصريون في إبداء دعمٍ مطرد للجيش مع أن السلوك إختلفَ بين البلدَين. ففي جميع الموجات الإستطلاعية منذ ثورات 2011، أعرب أكثر من ثلثَي المجيبين في البلدَين عن “قدر كبير من الثقة” بالقوات المسلحة، وهي النسبة الأعلى الممكنة. ويُسلّط ذلك الضوء على خطر الثقة التي يمحضها الرأي العام للمؤسسات العسكرية غير المُنتخَبة، وغير الخاضعة للمساءلة في معظم الأحيان. وفي حين أن ثقة التونسيين بالجيش لم تؤدِّ إلى الإطاحة بالعملية الديموقراطية، فقد عزّز الجيش نفوذه السياسي، وصوّت الجنود أخيراً في الإنتخابات المحلية لأول مرة. أما ثقة المصريين بالجيش فقد أتاحت له تقويض المؤسسات الديموقراطية الناشئة والقضاء عليها، فيما تمكّن من حشد نفوذ غير مسبوق.
بيد أن النتائج كانت أشد سوءاً في بعض البلدان حيث سجّلت ثقة الرأي العام بالقوات المسلحة مستويات متدنّية. ففي البحرين وليبيا وسوريا واليمن، فقد أظهرت الإستطلاعات التي أجراها «الباروميتر العربي» في 2010-2011، إنعداماً شديداً للثقة بالجيش. على سبيل المثال، أُجرِي الإستطلاع في اليمن بعد انطلاق الإحتجاجات إنما قبل أن يبدأ الجنود بإطلاق النار على المشاركين فيها. وقد بلغت نسبة الثقة بالجيش أكثر بقليل من 50 في المئة، وهي نسبة أعلى من الثقة بالحكومة والأجهزة الأمنية، لكنها تبقى ثاني أدنى نسبة في المنطقة. غالب الظن أن غياب الثقة بين الشعب والجيش ساهم في جنوح التظاهرات نحو العنف، وفي اندلاع الحرب الأهلية لاحقاً، والتي تستمر على الرغم من التدخل العسكري الذي تقوده السعودية. وفي حين حالت الظروف الأمنية دون إجراء إستطلاعات للمتابعة في هذه البلدان، تشير تقارير نوعيّة إلى تعمُّق الخيبة من مؤسسات الدولة كافة، فيما تستهدف الهجمات الجوية التي تشنّها الحكومة المدنيين في سوريا واليمن.
إنطلاقاً مما تقدّم، تشير البيانات العائدة للعام 2011 إلى أن هوة الثقة المتزايدة التي تشهدها المنطقة اليوم، والتي تّتسم بتراجع الثقة بالحكومة وازدياد الثقة بالجيش، ربما تُنذر بمرحلة من عدم الإستقرار. ومع تحوُّل الدعم العام من الحكومات المدنية إلى القوات المسلحة، تزداد أيضاً الشرعية النسبية التي يتمتع بها الجيش ونفوذه السياسي المُحتمَل. يُمكن أن تكون الثقة العامة بالقوات المسلحة مكوّناً من مكونّات العلاقات المدنية – العسكرية السليمة، مثلاً عبر الحد من خطر العنف خلال التظاهرات الحاشدة. لكن عندما يمحض المواطنون ثقة أكبر للجيش بالمقارنة مع القوات الحكومية المدنية، يصبحون أقل استعداداً لمقاومة التعدّيات على حقوقهم المدنية التي تُرتكَب باسم الأمن. حتى إن الثقة العامة قد تؤدّي إلى إحكام قبضة الجيش في الدفع نحو قرارات غير شعبية، مثل الإتفاق الذي أبرمه السيسي لنقل السيطرة السيادية على جزيرتَي تيران وصنافير إلى السعودية.
بغية مساءلة الجيش، بإمكان المجتمع المدني أن يساعد المواطنين على رصد التعدّيات العسكرية على السياسة المدنية. وبإمكان الحكومات الغربية تشجيع شركائها العرب، الذين هم المتلقون الأكبر للمساعدات الأميركية في العالم، من أجل أن يصبح هناك إشرافٌ وشفافية في القطاع العسكري. وإلا قد تستمر الشعوب في قبول الحجّة السلطوية التي يسوقها الجيش بأنه يجب التضحية بالحقوق السياسية والمدنية باسم الأمن. لكن ما دامت التحديات الأمنية مُنتشرة في العالم العربي، يعني هذا القبول أن التململ العربي من الظروف الإقتصادية والإجتماعية ومن الحوكمة السيئة لن يؤدّي على الأرجح إلى تعبئة المواطنين لرفع مطالب فعلية بالإصلاح.

• نيكولاس لوتيتو حائز على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كولومبيا ومحاضِر في جامعة ييل. لمتابعته عبر تويتر: NickLotito@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى