حكومةُ الــ”ﭘـاتْشِنْكُو” بين المغامرة والمقامرة

بقلم هنري زغيب*

لعبةُ الـ”ﭘـاتْـشِنْكو” في اليابان، بين أَكثر الأَلعاب التسلوية الشعبية انتشارًا، منذ ظهورها في عشرينات القرن الـماضي. وهي كنايةٌ عن صندوقةٍ إِلكترونية كبيرة يجلس أمام شاشتها اللاعبُ ويـخَزِّن فيها كُرَيَّاتٍ معدِنيةً صغيرةً يكون اشتراها، ويَنْقُفُها بِـمفتاحٍ يقذِفُها كلَّها سريعةً إِلى أَعلى الصندوقة، ثم تنحدر موزَّعَةً، كيفما اتَّفق، في قنواتٍ متشعِّبة ذاتِ ثقوبٍ متلاحقة. وبعدَدِما تنزل الكُرَيَّات في الثقوب، تصل إِلى وعاءٍ خاص أَمام اللاعب فيُعيدُها إِلى العلبة ويقذِفها من جديد لإِعادة نزولها في ثُقوبٍ جديدة، أَو يأْخذ الكُرَيَّات التي نزلت أَمامه ويستبدلُها لدى موظَّف يعطيه بقيمتِها هدية تناسب عدد الكُرَيَّـات، لا مبلغًا نقديًّا لأَنها ميسرٌ، ودولة اليابان تحرِّم لعبة القمار. وهكذا تكتَظُّ في القاعات الصناديقُ الإِلكترونية، متجانِبَةً مُتَلازَّةً، وسْط طَــنْطَــنَــةٍ دائمةٍ وجَلَبَةِ اللاعبين في القاعة.
أَخذَني إِلى لعبة الـ”ﭘـاتْـشِــنْكـو” اليابانية استغراقُ خمسة أَشهُر في لبنان لتشكيل حكومة جديدة، في جَلَبَةِ طَنْطَــنَــةٍ يوميةٍ تُـحْدِثُها كُرَات التصاريح بين متشائمٍ ومتفائلٍ ومتشائلٍ، وفول ومكيول، ودقّ ناقوس الخطر، ولـم يَـبْـقَ سياسيٌّ في الجمهورية اللبنانية إِلَّا وَأَفاض في رأْيٍ عبقريٍّ فريدٍ فعْلًا في نوعه، خلاصتُه أَنَّ “تشكيلَ الحكومة أَكثرُ من ضروريٍّ، واليومَ قبل الغد”، حتى لم نعُدْ نَفهم كيف يـُجمعُون جميعُهم على إِجماع كون التشكيل ضروريًّا، اليومَ قبل الغد، وإِذا جاءَ الغد جاءت معه أَنواع العرقَلَة والفرمَلَة، والعناد والاستبداد، والنكَد والـحَرَد، كأَنَّ لكل فريق صكًّا باسمه لا يتنازل عنه، بين مَن يقبَل ومَن يرفُض، ومَن يوافق صباحًا ثم يغيِّر رأْيَه مساءً، ومن يِـحسَب النوّابَ أَثلاثًا وأَرباعًا وأَخماسًا، بين حصص وازنة وموازية ورئيسة وأَساسية ونصفِ أَساسية وسيادية وخدماتية، وحقائب فئة أُولى وفئة ثانية وفئة رابعة تتطايَر من يدٍ إِلى يد، ومن حزْب إِلى تيار، ومن مجموعة إِلى أَفراد، ومن عُقدة إِلى عُقدة، ومن نسبة مئوية إِلى نسبة أُخرى، ومن نِزال إِلى تنازل، ومن تصعيب إِلى تسهيل، بين تقديرٍ بالساعات الـمُقبلة وتقديرٍ بالأَيام الـمُقبلة، بين تأْليف الحكومة اليوم وتآلُف أَعضائها غدًا، بين البحث في البيان الوزاري عند تأْليفها، والقول إِن البيان مُعَلَّبٌ جاهزٌ سلفًا قبل تأْليفها، بين قياس الأَحجام وقياس الأَوزان، بين بياناتٍ مُـمِلَّة وتصاريحَ باردة، بين مزاجٍ لابس ومزاجٍ عابس، بين من أَطفأَ الـمُحرِّكات ومن أَدار الـمُحرِّكات، بين حصصٍ ومقاديرَ ومقايـيـس، بين مواقفَ حادَّة ومواقفَ مضادَّة، بين لقاءات تقريرية ولقاءات تشاورية، بين موفَدين من هنا ومُعْرِضين من هناك، بين معطَيات ومغرَيَات، بين تشديد وتبديد، بين بورصة أَسماء مرشحين ونفي هذه البورصة، بين أَخبار مسرَّبة من مصادر موثوقة وأُخرى غير موثوقة، وترجيحات مواقع التواصل الاجتماعي وترشيحات الصحف ومداولات الصالونات، حتى لـمْ يَبْقَ في الجمهورية اللبنانية مواطنٌ إِلَّا وبَـــلَّ يدَهُ في تشكيل الحكومة.
وهكذا أَفلت الأَمر من أَيدي الجميع، مثلما كُرات الـ”ﭘاتْـشِنْكو” الحكومية تُفْلِتُ من يدِ ناقِفِها وتَروح تترنَّحُ وتتهاوى وتتنقَّل وحدها بدون ضابطٍ، من ثُقْبٍ هنا إِلى ثُقْبٍ هناك إِلى ثقوب هنالك، والمواطنُ اللبناني، كَلاعب الـ”ﭘـاتْـشِــنْكـو”، لا يَدَ له في ما سَيَصِل إِلى يده من كُرَاتٍ حتى يستبدلَها برغيفِ خبزٍ أَو بِـحَفنةِ قسطٍ في مدرسة أَولاده.
نعم… أَفلتَت كُراتُ حكومة الـ”ﭘـاتْـشِــنْكـو” من أَيدي الجميع في هذه البابلِ الهائلةِ الفجيعة، بينما السياسيون آخذُون وقتَهم ترفيهًا ومقامرةً وتسليةً، يُـمارسون لعبةَ الـ”ﭘـاتْـشِــنْكـو”، والشعبُ وجيع، والاقتصادُ فجيع، والحلُّ يضيع، وأَيدي اللاعبين تقامر بالـمصير الفظيع، والبلدُ صريع، ومنقِذُهُ وضيع، وقاتلُوه أَحرقوه ليشعلوا سِيكَارَهم الضليع في نار الوطن الذي، بِــتَــآمُــرهِم الشَنيع، أَوصلوه إِلى هُوَّة الإِفلاس الـمُريع.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى