شبح الجهاد والتطرف ما زال يطارد دول المغرب العربي

على الرغم من الجهود التي تبذلها دول المغرب العربي وشمال إفريقيا لمواجهة الإرهاب حيث أخفق بعضها كمصر ونجح الآخر كالجزائر والمغرب، فإن قضية العائدين من مناطق “داعش” لا تُبشر بالخير في هذا المجال خصوصاً في تونس.

“السلفية الجهادية” تُقلق التونسيين

بقلم داليا غانم- يزبك*

التهديد الجهادي ليس جديداً على المغرب العربي الكبير. ومع ذلك، فإن تداعيات الإنتفاضات العربية في العام 2011 قد غيّرت بشكل جذري البيئة السياسية والأمنية لدول شمال أفريقيا. في حين شهدت دولٌ مثل مصر وليبيا وتونس زيادة في الوفيات جرّاء الهجمات الجهادية، فقد شهدت دولٌ أخرى مثل الجزائر والمغرب تأثيراً أقل. وعلى الرغم من الإختلافات، فإن التهديدات مستمرة وكثيرة، بما في ذلك الخلايا الجهادية المحلية التي تشمل تلك التي إستقرّت فعلياً وتلك المُتبَقّية التي تتزايد في مجموعات خارجية تعمل في منطقة الساحل، مثل تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” الراسخ جيداً. إن النقص المتبادل في الثقة والتعاون في مكافحة الإرهاب والأمن بين البلدان المغاربية يُعقّد بشكل متزايد مواجهة مثل هذه التهديدات. وإذا وُضعت معاً، يُمكن أن يصبح أمن المنطقة أكثر خطورة، وقد يكون القتال ضد الجهاد طويلاً.
شهدت ليبيا وتونس ومصر زيادة في الهجمات الجهادية بعد الإنتفاضات العربية في العام 2011. وقبل العام 2011، لم تعرف ليبيا أي وفاة من الهجمات الجهادية، ولكن بعد سقوط معمر القذافي وبداية الحرب الأهلية تغيّر الوضع بشكل كبير. وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي، بلغ معدل الوفيات في الجماهيرية السابقة من الإرهاب ذروته عند 454 في العام 2015. وأصبحت البلاد مرتعاً للمنظمات السلفية الجهادية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وبالمثل، إستفاد تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” من الفوضى لفتح معسكرات تدريب في جنوب غرب ليبيا، والحصول على الأسلحة وتجنيد المزيد من المقاتلين، بمن فيهم بعض الطوارق المُجهَّزين تجهيزاً عسكرياً جيداً وذوي خبرة. وفي حين إنخفض عدد الوفيات المرتبطة بالجهاديين في ليبيا إلى 376 في العام 2016، فإنه لا توجد في البلاد إستراتيجية لمكافحة الإرهاب ولا حكومة فعالة. مع الحرب الأهلية الجارية، والظروف الإجتماعية والإقتصادية المتردية، وسوء الإدارة والفساد والقمع وانعدام سيادة القانون، لا تزال ليبيا أرضاً خصبة للجماعات الجهادية وغيرها من الميليشيات المسلحة الكثيرة العاملة هناك.
في تونس المجاورة، البلد الوحيد الذي أدّت فيه إحتجاجات العام 2011 إلى إصلاحات وتطبيق ديموقراطية دستورية، إزدادت الوفيات بسبب الهجمات الجهادية بشكل كبير. لقد بلغ عدد الضحايا 81 في العام 2015 – وهي زيادة صارخة من الوفيات الأريع التي حدثت في العام 2011. ومنذ ذلك الحين ترسّخت في جبال الشعانبي والسمامة بالقرب من الحدود مع الجزائر خلايا جهادية على صلة بتنظيم “القاعدة”. كما أن الحدود التونسية مع ليبيا هي أيضاً مصدر قلق كبير للتونسيين. لقد ركّزت الحكومة تكتيكات مكافحة الإرهاب على أمن الحدود والتعاون الثنائي مع الجزائر. ويعمل كلا البلدين على تبادل المعلومات الإستخباراتية وتأمين الحدود وتنسيق الأعمال البرية والتعاون في وقف أنشطة التهريب. وأسفر هذا التعاون إلى عمليات ناجحة عدة بما في ذلك مقتل قائد كتيبة عقبة بن نافع المرتبطة بتنظيم “القاعدة”، خالد شعيب (المعروف أيضاً باسم أبو صخر لقمان)، الذي يُعتقد أنه العقل المدبر وراء الهجوم على متحف باردو في تونس في آذار (مارس) 2015. منذ ذلك الحين إنخفض عدد الوفيات جرّاء الهجومات الجهادية إلى 22، ولم تحدث أي خسائر بشرية جماعية منذ الإعتداء على الحرس الرئاسي في تونس في العام 2015. مع ذلك، لا يزال التهديد الجهادي في تونس جاداً. كما أن تكتيكات مكافحة الإرهاب مثل الضربات الجوية، وقمع المجتمعات الحدودية من قبل قوات الأمن، وتعطيل الإقتصاد غير الرسمي الحاسم لسبل العيش لهذه المجتمعات المحلية، تعمّق أيضاً مشاعر التهميش الإقتصادي والتغريب والإستبعاد الإجتماعي.
أما مصر، فقد شهدت إرتفاعاً كبيراً في الهجمات الجهادية بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في العام 2013. في العام 2015، بلغت الوفيات جرّاء هذه الهجمات ذروتها عند 663، إرتفاعاً من 47 في العام 2011. وقد ساهم العنف العشوائي وإستخدام القوة المُكثّفة من قبل قوات الشرطة المصرية ضد جماعة “الإخوان المسلمين” في إرتفاع التطرف العنيف لدى أعضائها. كما أن السلطات المصرية إستخدمت العقاب الجماعي وأساءت إستخدام سلطتها بموجب قانون مُتشدّد يمنح أفراد قوات الأمن سلطة واسعة لمضايقة وإساءة معاملة المواطنين بتهمة “جرائم الإرهاب”. إن الوضع الأمني في محافظة شمال سيناء هو مثالٌ على ذلك. لقد أدّت الأعمال العسكرية الثقيلة مثل تدمير المنازل والمزارع والمباني التجارية، فضلاً عن القصف الجوي والتشريد القسري، إلى تحويل شبه الجزيرة إلى “معسكر إعتقال على نطاق المنطقة” الأمر الذي ترك “أكثر من 400,000 شخص مع القليل من الخدمات الأساسية أو الإعانات”. إن هذه الإجراءات المُضادة للإرهاب هي في الواقع الأصول الأكثر أهمية للجهاديين. في الواقع، مع تركها بلا مصدر للدخل، أو القليل من الخدمات الأساسية، أو عدم وجود إحساس بالكرامة، لم يكن لدى هذه القبائل والمجتمعات خيار آخر غير البحث عن الحماية، أو الخدمات، أو لمجرد الإنتقام، لدى الجماعات المسلحة. لم تُثبت تكتيكات مكافحة الإرهاب المصرية فقط أنها عديمة الجدوى في تأمين وحماية البلاد ومواطنيها، بل ساهمت وستستمر في المساهمة في التطرف العنيف للمجتمعات الضعيفة وتورطها مع الجماعات المتطرفة العنيفة.
لدى الجزائر والمغرب تكتيكات لمكافحة الإرهاب أكثر تطوراً من الدول المغاربية الأخرى. شهدت الجزائر -وهي بلد له تاريخ طويل من القتال الجهادي- إنخفاضاً مطرداً في عدد القتلى جراء الهجمات الجهادية، حيث إنخفضت من 153 في العام 2009 إلى تسعة في العام 2016. لقد إستطاعت الجزائر الإبقاء على النشاط الجهادي في مستوى مُتدنٍّ من خلال الربط بين إستجابات صارمة لمكافحة الإرهاب ومقاربات ناعمة للمصالحة وإعادة الدمج. في أثناء متابعة العمليات العدوانية لمكافحة الإرهاب ضد الجماعات الجهادية، تبنّت السلطات الجزائرية، بدءاً من العام 1994، أساليب تصالحية، بما في ذلك هدنة، وعملية مصالحة، وتسريح، وبرامج إعادة تأهيل، وفرصة لجهاديين سابقين للتحدث عن تجاربهم، وكذلك إستثمارات كبيرة في التنمية. وسيطرت الدولة بشكل صارم على المجال الديني، بينما إستثمرت أيضاً في الإسكان، والوظائف، والصحة، والبنية التحتية، وسياسات الشباب. من خلال تلبية إحتياجات سكانها، إستعادت الدولة الثقة والشرعية، بينما حرمت الجماعات الجهادية المحلية مما كان يُشكل في الماضي قوتها البشرية المحلية. واليوم، أصبح التهديد الجهادي في الجزائر مُحدَّداً جداً ومُتفرّقاً إلى حد كبير، كما أن مجموعات مثل “داعش” أو “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” لديها إمكانات محدودة لتحقيق تقدم كبير.
أما المغرب المجاور، وهو بلدٌ لم يكن لديه أي وفيات من الهجمات الجهادية حتى العام 2011 (باستثناء تفجيرات الدار البيضاء في العام 2003)، فقد شهد 17 حالة وفاة جراء الهجمات الجهادية، وإتّخذ أخيراً تدابير صارمة لمكافحة الإرهاب. وقد قام المكتب المركزي للتحقيقات القضائية بتشديد الأمن، وفي العام 2015، قام بتفكيك 49 خلية إرهابية وألقى القبض على 772 من المشتبه بهم. مثل الجزائر، سعت المملكة إلى معالجة التطرف في جذوره واستثمرت في مشاريع التنمية، وبخاصة في المناطق الفقيرة. لقد إستثمر المغرب في تدريب الأئمة وعلماء الدين، بمن فيهم 447 إماماً من أفريقيا وأوروبا (من الذكور والإناث)، لمواجهة التفسيرات المتطرفة للآيات القرآنية. وتم تقديم العديد من البرامج للترويج للإسلام المعتدل في السجون حيث يُمثّل المعتقلون المتطرفون حوالي واحد في المئة من نزلاء السجون المغربية. كما إستُخدِمت الشراكة مع الشركات الخاصة لتوفير العمل والتدريب والوظيفة بعد الإفراج عنهم لدمج المتطرفين السابقين في المجتمع. هذه التدابير تُرجمت إلى نتائج ملموسة: لم تكن هناك هجمات إرهابية في المغرب منذ تفجير مراكش في العام 2011.
على الرغم من الفروق في كثافة التهديد والمخاطر، فإن التحديات تلوح في الأفق في المنطقة المغاربية. أولاً، تُعتَبر قضية العائدين مسألة بالغة الأهمية، خصوصاً بالنسبة إلى تونس والمغرب، حيث إنتقل 2,926 و 1,623 مقاتلاً على التوالي منهما إلى الأراضي التي كان يسيطر عليها “داعش”. هناك 800 مقاتل تونسي و198 مغربياً يُعتقد أنهم عادوا إلى البلدين، ومن المرجح أن يعود المزيد منهم في المستقبل. ثانياً، القرب من دول الساحل الإفريقي، التي تُعاني حالياً من إنعدام الأمن العميق، له تأثير مباشر على شمال إفريقيا. ستظل مرونة تنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي” والقدرات المتنامية ل”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم “القاعدة” مصدر قلق بالنسبة إلى منطقة الساحل والمغرب العربي، وبالتالي أوروبا. ثالثاً، والأكثر أهمية، أن العوامل التي جعلت من الممكن للجاليات الجهادية أن تزدهر في المقام الأول – عدم المساواة الإقتصادية، والإفتقار إلى الفرص المهنية، والإغتراب الإجتماعي، والتهميش السياسي، والقمع، والعنف العشوائي – لا تزال قائمة اليوم في جميع البلدان المغاربية، ومن المرجح أن تستمر. إن شبح الجهاد والتطرف قد يُطارد شمال أفريقيا لفترة طويلة.

• داليا غانم – يزبك باحثة مقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يُركّز عملها على العنف السياسي، والتطرف، والإسلام السياسي، والجهاد مع التركيز على الجزائر.
• كُتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى