نوبل في الطب وقضية رجل

أعلنت الجهة المانحة لجائزة نوبل، في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) عن فوز العالمين الأميركي جيمس أليسون والياباني تاسوكو هونجو بجائزة نوبل للطب لعام 2018 لاكتشافاتهما التي أدّت إلى تحقيق تقدم في علاج السرطان. وأفادت جمعية نوبل في معهد كارولينسكا في السويد في بيان: “كشف أليسون وهونجو كيف يُمكن إستغلال إستراتيجيات مُختلفة لتثبيط كوابح الجهاز المناعي في علاج السرطان”.

تاسوكو هونجو: الفائز الثاني بجائزة نوبل للطب

بقلم الدكتور فيليب سالم*

كان عمره عشر سنين عندما توفيت أمه من مرض السرطان. وطاردته الأمراض السرطانية، فمات بعضٌ من أعمامه وأخواله بسببها. فعاش في أَلَمٍ عميق وخوفٍ شديد. عاش ينتطر دوره. لم ينتظر طويلاً؛ فجاءه سرطان الجلد المعروف بال”ميلانوما” (Melanoma) في وجهه. ولكن بدل أن يستسلم له ويموت، عاش وثار عليه. عاش ليثأر منه، وجعل القضاء عليه قضيته الأولى، بل القضية الوحيدة في حياته. فترهّب لهذه القضية. كان يعرف ان الترهّب هو الطريق الى الإبداع. حياته، كل حياته هي عمله. من بيته الى مكتبه الى مختبره عالم متكامل هو عالمه. وهو قلّما يخرج خارج أسوار هذا العالم. وان كنت في الشارع ورأيت سيارة متواضعة تحمل لوحة مُميزة كُتِب عليها ( CTLA-4)، وهو البروتين الذي اكتشفه، تعرف أنها سيارته. عاش في عُزلة عن العالم، لم يعنِ له شيئاً ضجيج العالم وراء عالمه. إنه جيمس أليسون، الإنسان الطيّب الوديع، والعالم الذي حاز على جائزة نوبل في الطب لسنة 2018.
وهناك طابعٌ شخصي لجائزة نوبل هذه السنة، اذ ان أليسون هو رئيس دائرة علم المناعة في مركز “أم دي أندرسون كانسر سنتر” (M.D. Anderson Cancer Centre) في مدينة هيوستن وهو من أهم مراكز السرطان في العالم إن لم يكن أهمّها على الإطلاق. هنا دَرَست. هنا تَخَصّصتُ في معالجة الأمراض السرطانية، وهنا كُنتُ أستاذاً لسنوات عديدة قبل أن أؤسس “مركز سالم للسرطان” (Salem Oncology Center). وهناك طابع لبناني ايضاً إذ ان معظم الاطباء الذين درّبتهم في الجامعة الاميركية في بيروت ما بين 1971 و1986 يعملون هنا، والبعض منهم يحتل مراكز أكاديمية قيادية فيها. كما ان هناك برنامج تعاون بين هذا المركز والجامعة الأميركية في بيروت.
لقد تعلّمنا في الماضي أن هناك علاقة وثيقة بين نظام المناعة والأمراض السرطانية. فكُلّما ضعفت المناعة إزدادت نسبة الإصابة بالسرطان. رأينا ذلك لدى المرضى المُصابين بمرض السيدا (المعروف أيضاً بالإيدز أو التَنَقْصُم)، وكذلك لدى المرضى الذين يخضعون لعلاجات تُدمّر المناعة. وتعلّمنا أيضاً أن النظام المناعي يعمل بدِقّة للحفاظ على الصحّة ضد الإلتهابات الجرثومية التقليدية. فهذا النظام يكتشف الجرثومة المُعادية، ويُحدّد هويتها، ثم ينقضّ عليها ويقتلها. فلماذا إذاً يقف هذا النظام عاجزاً أمام غزو الخلايا السرطانية وتقدّمها؟ جاء الجواب من الأبحاث التي قام بها كلٌّ من أليسون وشريكه في جائزة نوبل لهذه السنة، العالم الياباني تاسوكو هونجو. لقد وجد هذان العالمان ان الخلية السرطانية هي خلية ذكية، إذ أنها تصنع بروتينات غير معهودة وتحملها على الغلاف الخارجي للخلية. وظيفة هذه البروتينات هي شلّ النظام المناعي وجعله عاجزاً عن إحداث أي ضرر لهذه الخلية. ولمنع حصول ذلك نجح هذان العالمان في وضع استراتيجيات لتدمير البروتينات وتحرير النظام المناعي، بحيث يصبح قادراً على التعرّف إلى الخلية السرطانية وتحديد هويتها، كما يصبح أيضاً قادراً على ضربها وتدميرها. هذا هو العلاج المناعي الذي أحدث ثورة علمية وغيّر استراتيجية معالجة الأمراض السرطانية، وجعل هذه الاستراتيجية أكثر فعالية. وتوالت الأدوية الجديدة في هذا المضمار، فجاء دواء “ييرفوي” (YERVOY) (ipilimumab) في 2011، وجاء بعده “أوبديفو” (OPDIVO) (nivolumab) ، ومن ثم “كيترودا” (KEYTRUDA) (pembrolizumab) وغيرها من الأدوية المُشابهة. وها نحن اليوم قادرون على معالجة أمراضٍ كانت عصيّة على المعالجات التقليدية من قبل، كسرطانات الجلد (Melanoma )، والرئة، والكلى، والمثانة، والكبد. ولم تُصبح هذه الأمراض قابلة للمعالجة فحسب بل أصبحت قابلة أيضاً، في بعض الأحيان، للشفاء التام. لقد أُصيبَ الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر بسرطان ال”ميلانوما” (Melanoma) قبل ست سنوات، وكان المرض إنتشر الى الدماغ. وها هو اليوم وفي عمر 93 سنة وهو خالٍ تماماً من المرض ويعيش حياة طبيعية بفضل المعالجة بدواء “كيترودا” (Keytruda). إنه علمٌ جديد. علاجٌ جديد. خطوةٌ كبيرة للعلم. خطوةٌ أكبر للإنسانية. ونحن لم نعرف بعد حدود الفعل الإيجابي لهذا العلاج، كما لا نعرف حدود فعله السلبي. هذا العلاج لا يزال في طفولته. عمره سبع سنوات فقط. ولكن على رغم ذلك ها قد بدأنا نرى نتائج مُذهلة لفعالية مزج هذا العلاج المناعي مع العلاج التقليدي الكيميائي، وخصوصاً في معالجة سرطان الرئة. كما بدأنا نحن في مركزنا الطبي بمزج هذا العلاج ليس فقط مع العلاج الكيميائي بل ايضا مع العلاج المُستهدف. والعلاج المُستهدف هو العلاج الذي يستهدف الخلية السرطانية من غير ان يمسّ الخلية السليمة بأي أذى. كما اننا نتطلع الى اليوم الذي يُصبح فيه هذا العلاج علاجاً فعّالاً في أمراض وراء حدود الأمراض السرطانية. امراضٌ مُزمنة، مثل أمراض إلتهاب المفاصل (Arthritis) والإلتهابات الجرثومية والأمراض العصبية.
لم تكن الطريق للوصول الى هنا سهلة. كانت مُعبّدة بالفشل. لقد أُصيبَ أليسون بالخيبة مراراً. لم يفارقه الفشل في السنوات الأولى من أبحاثه. إلّا أنه تعلّم الكثير من الفشل. لقد تعلّم أنه لا يُمكنك الوصول الى النجاح من دون المرور بالفشل؛ وتعلّم أيضاً أن الفشل هو قسم من الطريق الذي يأخذك الى النجاح. كان الطريق طويلاً إذ أن عمر علم المناعة يمتدّ الى أكثر من مئة سنة. في هذا العمر، عاش ومات علماء. واحدٌ من هؤلاء كان عالماً من أصل لبناني، وكان هذا العالم بيتر مدور الذي حاز جائزة نوبل لسنة 1960.
وتعالوا نسأل ما هو المعنى الأعمق لجائزة نوبل؟ إنه في إقتناعنا بأن البحث العلمي هو الطريق الوحيد لصنع المعرفة، وأن ” العقل هو الإمام”. من هنا التزامنا القوي لأهمية تغيير فلسفة التربية في العالم العربي. فالتربية في مفهومنا ليست حشو العقل بالمعرفة بل هي تدريب العقل لصنع المعرفة. تدريب العقل لصنع إنسان جديد. ولا بدّ لنا أن نتساءل! كيف تكون هذه الخلية، وهي أصغر مركب في جسد الإنسان، أو جسد كل ما هو حي، عالماً لا حدود له؟ وكيف تكون هذه الخلية مثل الكون ( Cosmos) ، كلّما إكتشفت شيئاً، تتراءى أمامك اشياء أخرى. وكلما فتحت باباً، ترى أمامك أبواباً كثيرة مُغلقة. أوَليست هناك حدود لهذا العالم؟ أوَليست هناك حدود للمعرفة؟ للجواب، لا بدّ لك من أن تركع أمام هيبة الخالق وتُصلّي قائلاً: “السماء والأرض مملوءتان من مجدك”.

• الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأساذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
• نُشر هذا المقال أيضاً في صحيفة النهار اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى