من الباب الصغير….

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

” … بات في حكم الواقع اليوم أن يوسف الشاهد المُصِرّ على البقاء في رئاسة الحكومة (التونسية)، بات مسنوداً لا فقط من “حركة النهضة” وخرج من قبضتها، أو ما يقوله أعداؤه من أَسرِها، فقد بات مسنوداً من كتلة نيابية مؤلفة من الذين يصفون أنفسهم بالوسطيين المُستَنيرين، وإن تشكّلت من 34 نائباً في المنطلق، فالمعطيات المُتاحة لدينا تُفيد بأن عددهم سيتعزز بـ19 نائباً على الأقل، وذلك قبل بداية السنة البرلمانية الأخيرة في عمر مجلس النواب الحالي، الذي ستنتهي ولايته بعد انتخاباتٍ تجري في خريف 2019، إذا قُدّر لها وانتظمت”.
هذا ما كنت كتبته في مُدوِّنَتي “الصواب” بتاريخ 29 آب (أغسطس) 2018 تحت عنوان ” السنة الأخيرة في المدة النيابية”. ولم أكن أرجُم بالغيب ولكنها معلومات ترامَت إليّ من مصدرٍ مُطّلع جداً وجدير بالثقة الكاملة، كما ينبغي لصحافي يحترم نفسه ومهنته، أن يكون متأكّداً وأن يزيد فوق التأكيد تأكيداً. ولقد بلغتني تلك الأخبار قبل أسبوع على الأقل من نشرها، ولكني حرصت على زيادة تأكيدها كما يقتضي شرف المهنة الصحافية التي دَرَّستُها وعلَّمتُها لفترة من الزمن.
***
قبيل الإنتخابات الرئاسية التي جرت في تونس في العام 2014 كنت عَنوَنتُ مقالاً لي نشرته هو الآخر على مُدَوِّنَتي “الصواب” كما يلي: “أُصَوِّتُ للباجي مُكرَهاً لأني لا أثق في المرزوقي”، كان ذلك قبل أقل من أسبوع على الدورة الثانية.
البارحة وأنا أشاهد أداء الرئيس الباجي قائد السبسي أمام المُذيعة الموهوبة مريم بالقاضي، للحقيقة أشفقت عليه، وتساءلتُ: هل هذا حقيقة هو الباجي قائد السبسي المُناور الماكر والداهية بكل المعاني السامية للمكر والدهاء السياسي، الذي عرفته في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الفائت، عندما كنت أزوره في مكتبه في وزارة الخارجية، فنتحدث في الشأن الدولي، ويكون لسعة إطلاعه، وقدرته الفائقة على التحليل والتفكيك، عوناً لي لاستشفاف حقائق لم يكن يتسنّى لي أن أعرفها أو أطّلع عليها من دونه أو من دون غيره وقتها وقتها، كما سبق لي التردد على مكاتب غيره من وزراء الخارجية على غرار محمد المصمودي، وغير الخارجية كمحمد الناصر ومحمد الغنوشي والطاهر صيود وبخاصة إسماعيل خليل والجنرال الموهوب عبد الحميد الشيخ والحبيب الشطي والأستاذ الكبير المعلم الشاذلي القليبي سواء في مناصبه الوزارية المختلفة أو في الجامعة العربية، وحامد القروي والرشيد صفر والهادي البكوش والرئيس فؤاد المبزع، وباستثناء الرئيس المنصف المرزوقي، الذي لم أزره سوى مرة واحدة في مجموعة من أعضاء لجنة تقصي الحقائق بعد الإنتهاء من تقريرها في نيسان (إبريل) 2012، وبعد جفوة أصابت تقريباً كل أعضاء الهيئة المُديرة للرابطة في فترة 1989 – 1994 مع رئيسها المرزوقي بسبب تفرّده في اتخاذ القرار وإصدار قرارات لم يسبق أي تشاور بشأنها داخل الهيئة حتى فضيحة مؤتمر 1994 مما حرمه على عكس كل سابقيه من صفة الرئيس الشرفي.
تساءلت بيني وبين نفسي: هل إن ما أصاب الباجي البارحة، هو لوثة شيخوخة ظهرت أعراضها حديثاً عليه، وكنت زرته بصحبة توفيق بودربالة لتسليمه التقرير النهائي للجنة المستقلة لشهداء الثورة و مصابيها في نيسان إبريل) الماضي، وهي المُشكّلة بقانون، والتي شغلت فيها موقع المُقرّر العام، فأُعجِبتُ بالرجل ومدى وضوح وجلاء فكره وصحو عقله وسرعة بديهته؟ أم هل إنه ضعف المرء أمام إبنه عندما تتقدم به السن (الأب لا الإبن)، فيعامله كالطفل المُدَلّل الصغير غير منتبه أو آبهٍ إلى أنه رئيس دولة، وليس في حضرة عائلته الصغيرة، فينسى واجباته الكبيرة أمام أحاسيسه الصغيرة؟
إستنتاجاتي السريعة أن الرجل بات له هاجس واحد وهو مصير إبنه على رأس حزب “نداء تونس”. ذهب النداء وتشتّت أكثر مما هو مُشتّت، أو بقي ما لم تعد له حظوظ في البقاء، وهو لذلك، أي الرئيس، يضع ماضيه وحاضره ومستقبله، إن كان ما زال له مستقبل، على كفّ عفريت. مهمته اليوم كأب، ليس معروفاً إن كان واعياً بما يفعل أو غير واعٍ، أن يضمن ـ يقول ذلك أو لا يقوله ـ التوريث لابنه لا توريث قصر أو ضيعة ـ إنما بلد بأكمله يرفض التوريث، وفي سبيل ذلك يبدو مُستعداً للتضحية بكل شيء في الحزب، بالبلاد، بالاستقرار وحتى بسمعته التي كان يمكن أن يدخل بها التاريخ من بابه الكبير، ولكن وفي زمن ضعف استبعد بكفه كل ذلك، للخروج لا من الباب الصغير بل من النافذة الضيّقة، قاطعاً بذلك خيط معاوية، مع “حركة النهضة” التي استفادت منه أكثر مما استفاد معها، ودليل ذلك الانتخابات البلدية الأخيرة ونتائجها.
أما التوافق فإنه لم يسقط تماماً كما يعتقد البعض، لكنه تحوّل إتجاهه من الباجي إلى الشاهد، ولكن بشروط أقسى وأمَرّ، وبأدواتٍ أقل مضاءً، ولكي يكون هناك حظ لهذا الأخير، أي الشاهد، لا بّد له من أداة. وهذه الأداة هل تكون حزباً جديداً مؤسَّساً على أنقاض “نداء تونس”، أم سيستولي الشاهد وأنصاره على النداء الذي تحوّل إلى قوقعة فارغة، بعد أن غادره الكثيرون كما يسارع الركاب بمغادرة سفينة تغرق؟
هل كما فعل بورقيبة مع الحزب الحر الدستوري القديم في العام 1934، فاستعمل شعبه وهياكله في مؤتمر قصر هلال، يَقدُم الشاهد على تكرار المغامرة فيلجأ للاستيلاء على تلك القوقعة، غير أنه، أين بورقيبة وحذقه ليقوم الشاهد مثله بذلك العمل؟
فقط إن للشاهد قوة لم يحسبوا لها جميعاً حسابها، وهي إدارة عمومية تحت سلطته كرئيس حكومة، شديدة الكفاءة يمكن أن تخدم ركابه، كما خدمت من قبل ركاب الباجي قائد السبسي، وما أسمتها “حركة النهضة” الإدارة العميقة، وهذه قوة ضاربة تستطيع أن تفعل المعجزات.
حقيقة أخرى أن كل هؤلاء المُنسلخين من النداء، ما هي حظوظهم غداً في انتخابات مقبلة، و الإستشارات الإنتخابية المقبلة تدق الباب، و”النهضة” تستعد لها منذ أربع سنين؟
لنا عودة …

• عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى