إنتاج النفط في مستويات قياسية… إذن لماذا تتجه أسعار النفط للإرتفاع؟

على الرغم من أن صنابير النفط في العالم وصل ضخها إلى مستويات قياسية فإن أسعار النفط تتصاعد بشكل عنيد خصوصاً مع العقوبات الأميركية التي ستطبق على إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل وإنخفاض النفط الفنزويلي إلى مليون برميل هذا العام.

النفط الصخري الأميركي: غيّر مستقبل الطاقة

واشنطن – محمد زين الدين

يضخ العالم ويستهلك حالياً كميات ضخمة من النفط أكثر من أي وقت مضى، مع وصول إنتاج المُنتجين الكبار مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى مستويات قياسية. لكن أسعار النفط لا تزال ترتفع بعناد، كما أن الكثير من البراميل الآتية من إيران وفنزويلا من المؤكد أنها ستختفي من السوق في الأسابيع المقبلة. وهذا يعني أن العالم بحاجة إلى إيجاد طريقة للحفاظ على تزويد الإقتصاد بالنفط المطلوب أو أن الأسعار سترتفع بشكل كبير فيما الرياح الإقتصادية العالمية تشتدّ وتتكثّف.
في آب (أغسطس) الفائت، للمرة الأولى في التاريخ، ضخّ العالم أكثر من 100 مليون برميل في اليوم، وفقاً لتقرير جديد من وكالة الطاقة الدولية. وكان ذلك مدفوعاً بالتدفق المستمر من قطاع النفط الصخري الأميركي – الذي حوّل الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط في العالم، حيث تضخ البلاد ما يقرب من 11 مليون برميل يومياً – وانتعاشً إنتاج منظمة “أوبك” التي تضخ دولها أكثر من أي عام سابق.
لكن الإنتاج القياسي بالكاد يكفي لمواكبة تعطّش وظمأ العالم للنفط. لا يزال الطلب من الاقتصادات النامية، وخصوصاً في آسيا، قوياً ومن المتوقع أن ينمو بالوتيرة عينها في العام المقبل. وتنتج المصافي كميات قياسية من البنزين والديزل وغيرهما من المنتجات، وحتى أنها تستغل مخزونات الخام المنخفضة أصلاً للقيام بذلك.
ولهذا السبب، لا تزال أسعار النفط الخام مرتفعة للغاية: يبلغ سعر خام برنت في لندن نحو 80 دولاراً للبرميل، ويبلغ سعر برميل النفط الأميركي 70 دولاراً للبرميل، أي حوالي 45 في المئة أعلى من هذا الوقت من العام الفائت.
“قبل بضع سنوات، كان الناس يقولون، لقد انتهى عصر النفط السهل والرخيص. بعد ذلك، غيّرت الطفرة الصخرية الأميركية السوق”، قال أنطوان هالف، كبير محللي النفط سابقاً في وكالة الطاقة الدولية، وهو الآن باحث كبير في مركز سياسة الطاقة العالمي بجامعة كولومبيا. لكن العطش العالمي للنفط ظل مستمراً بلا هوادة، وعادت الأسعار إلى الإرتفاع بثبات.
وقال: “لدينا سوق حيث يُعتبَر الصخر الزيتي المصدر الأكبر للنمو، لكننا ما زلنا نواجه إحتمال حدوث زيادات كبيرة في الأسعار في العام المقبل”.
يُمكِن أن تحدث هذه الزبادات حتى قبل ذلك. هناك الكثير من النفط على وشك الإختفاء من السوق، وليس من الواضح كم هو سهلٌ إستبداله، الأمر الذي قد يدفع أسعار النفط الخام إلى الإرتفاع، ويزيد الوجع على المُستهلكين وفي محطات البنزين، ويعمل بمثابة مكبح للنمو الاقتصادي العالمي.
في حين أعادت “أوبك” فتح صنابير دولها هذا العام، فمن المتوقع أن تفقد دولتان من أعضائها مكاسب كبيرة. لقد تحوّلت صناعة النفط في فنزويلا، التي دمّرها التدخل السياسي، وسوء الإدارة، ونقص الإستثمار، من مستوى كئيب إلى مستوى كارثي. لقد بلغ إنتاج البلاد 1.5 مليون برميل يومياً هذا الربيع، لكن من المتوقع أن ينخفض إلى مليون برميل يومياً بحلول نهاية العام.
ومن المتوقع أيضاً أن تنخفض صادرات النفط الإيرانية لسبب مختلف: ستدخل عقوبات الولايات المتحدة حيّز التنفيذ في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. تريد إدارة ترامب من مشتري النفط الإيراني التوقف عن شرائه، وخوفاً من فرض عقوبات من واشنطن، كثيرون في أوروبا وآسيا (باستثناء الصين) يُخفّضون بشكل حاد وارداتهم من النفط الإيراني.
وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن الصادرات الإيرانية قد تراجعت بالفعل بمقدار 500 ألف برميل في اليوم، ويُمكن أن تنخفض بشكل حاد بحلول شهر تشرين الثاني (نوفمبر) مع التزام عملاء آخرين بالطلب الأميركي. ومن بين المجهولات الكبيرة تكمن في ما إذا كانت الصين والهند – وهما أكبر زبائن إيران – سوف تُخفّضان أو توقفان مشترياتهما أو تواصلان شراء النفط الإيراني لتلبية إحتياجاتهما الخاصة.
أي دولة يُمكنها أن تُعوِّض هذا النقص البالغ أكثر من مليون برميل يومياً للسوق العالمية؟ الأمر ليس واضحاً تماماً، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. إن قيود البنية التحتية بدأت الحدّ من قدرة الولايات المتحدة على النمو. كما إن زيادات الإنتاج الموعودة من البرازيل لم تتحقق بعد. وتقول روسيا إنها تستطيع ضخ ما يصل إلى 300 ألف برميل إضافية في اليوم، لكن من المحتمل ألا يتم ذلك حتى العام المقبل. والعديد من الدول الأعضاء في “أوبك”، مثل العراق ونيجيريا وليبيا، قد بلغ إنتاجها الحد الأقصى. وهذا من المُحتمل أن يترك السعودية وحفنة من الموردين التقليديين الآخرين لتعويض النقص في السوق.
وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن دول “أوبك”، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، لديها طاقة إنتاجية مُحتمَلة تبلغ 2.7 مليوني برميل في اليوم، وهو ما يُمثل كمية الإنتاج التي يُمكن أن تحقّقها البلدان المُنتجة نظرياً في غضون بضعة أشهر لتخفيف النقص في السوق.
لكن وكالة الطاقة الدولية تشك في كل ما يُمكن تقديمه إلى السوق بسرعة، وفي أي حال، فإن ذلك النفط ليس بديلاً مثالياً للبراميل الإيرانية والفنزويلية الأثقل التي تختفي.
وخلصت الوكالة في تقريرها الشهري عن النفط إلى القول: “نحن ندخل فترة حاسمة للغاية بالنسبة إلى سوق النفط،، إن الأشياء تتقلص وتضيق”.
ومن المرجح أن تدفع سوق أشد وأضيق إلى إرتفاع أسعار النفط المُرتفعة أصلاً. في حين أن الإقتصاد العالمي، وعلى الأخص الإقتصاد الأميركي، كان يتباطأ هذا العام، فإن إرتفاع أسعار النفط سيضيف إلى سُحُب العاصفة التي تتراكم.
أولاً، هناك الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي من المتوقع أن تتكثف مع مزيد من جولات زيادة التعريفات الجمركية المتبادلة على جميع واردات البلدين. هناك مؤشرات بالفعل على أن التوترات التجارية بدأت تؤثر في الإقتصاد الدولي.
من ناحية أخرى تتراجع معدلات الشحن العالمية بسبب المخاوف من التجارة. لقد أبلغت الشركات الأميركية عن مزيد من المخاوف بشأن التعريفات الجمركية وبدأت في تجميد الإستثمارات، وفقاً لتقرير جديد صادر عن بنك الإحتياطي الفيديرالي في فيلادلفيا، بنسلفانيا. بدأت البنوك الاستثمارية التي كانت متفائلة بشأن التوقعات الاقتصادية حتى الآن بإعلان الحذر من أن التوترات التجارية قد تؤثر في النمو، في الولايات المتحدة وحول العالم.
ومن جهتها لدى الصين مخاوف تتجاوز الحرب التجارية المتصاعدة. إن مستويات الديون لديها مرتفعة للغاية، ويستمر الإستثمار عند أدنى مستوياته منذ 20 عاماً، مما يثير المخاوف من تباطؤ أوسع في ثاني أكبر إقتصاد في العالم.
كما تتعرض الأسواق الناشئة للضربات، حيث تعاني أسوأ تراجع لها منذ سنوات. وهي تواجه مخاوف من عدوى التجارة العالمية وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة على السواء، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى تلك البلدان لتسديد الديون بعملاتها التي تنخفض قيمتها أكثر كل يوم.
ثم هناك أشباح الأزمة المالية الأخيرة، التي إنفجرت قبل 10 سنين. تكثر المؤشرات المشؤومة بأن العالم لم يستوعب دروس تلك الأزمة. فقد ارتفعت الديون الشخصية في الولايات المتحدة إلى مستويات أعلى مما كانت عليه عندما بدأ الانهيار المالي. كما أن ديون الشركات الأميركية قد إنفجرت حتى وصلت إلى مستويات قياسية، والكثير منها قريب من وضع متدهور غير مرغوب فيه. إن العديد من الشركات في حالة أسوأ مما كانت عليه في العام 2008. كما أن سوق الرهن العقاري عادت إلى الإزدهار مرة أخرى على مستوى العقد الماضي.
ولتجنّب إرتفاع أسعار النفط، خصوصاً قبيل الإنتخابات النصفية الحاسمة في الولايات المتحدة، يُمكن لإدارة ترامب أن تستغل ملايين البراميل من إحتياطات البلاد الاستراتيجية من النفط. وقد أعلن البيت الأبيض بالفعل أنه سيطلق كمية محدودة من النفط حتى نهاية العام، وذلك جزئياً للإمتثال لمتطلبات الكونغرس لبيع مخزونات النفط وللتخفيف جزئياً من تأثير العقوبات الإيرانية. كما يُمكن أن تكون هناك تحركات أكثر، بما في ذلك ضخ مُنسَّق مع الدول الكبيرة المستهلكة للنفط.
وقال هالف إن قلق وكالة الطاقة الدولية بشأن قدرة السوق على تعويض النقص الكامل من إيران ودول أخرى “يفتح المجال أمام إمكانية إطلاق سراح منسق” بين أعضاء آخرين في الوكالة الدولية للطاقة. لكنه أضاف أنه قد يكون من الصعب إقناع الدول الغاضبة من موقف إدارة ترامب بشأن إيران باتخاذ إجراءات مُنسقة لتقويض الأثر السياسي لتلك العقوبات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى