كيف تُقيِّدُ القيود الداخلية في السعودية سياستها الخارجية

على الرغم من كل ما أقدم عليه من مغامرات سياسية في الداخل والخارج منذ وصوله إلى القيادة الثانية في المملكة، فإن أولويات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المحلية تضع قيوداً خطيرة على سياسته الخارجية، الأمر الذي يطرح علامات إستفهام عدة حول نجاحه في تحقيق رؤيته إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً.

رجال الدين في السعودية: ما زالوا يسعون لاسترجاع سلطتهم

بقلم بلال صعب*

لم يَنَل أيّ مسؤول سعودي مَديحاً وذمّاً في الوقت عينه أكثر من الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد وحاكم المملكة العربية السعودية الفعلي. وهذا ليس مفاجئاً، بالنظر إلى الطبيعة التحوّلية للمشروع الذي يقوده في الداخل، والذي من شأنه أن يؤدي إلى خلق فائزين – أولئك الذين يرغبون في إنفتاح المملكة – وخاسرين – أولئك الذين يرغبون، أكثر أو أقل، في الحفاظ على الوضع الراهن.
لكن في السياسة الخارجية، لا يبدو أن هناك مثل هذا الإستقطاب في الرأي العام حول ولي العهد السعودي. هناك شبه إجماع – الذي لا تشترك فيه إدارة ترامب كالمعتاد – على أن سلوك الأمير محمد في الخارج متهوّرٌ، طائشٌ وخطيرٌ جداً. يبدو أن عدم اليقين الوحيد بشأن ولي العهد السعودي في الشؤون الخارجية، يتعلق بما سيفعله تالياً إبن ال33 عاماً، أو ، أكثر دقة، ما هي الأزمة الجديدة التي سيخلقها.
منذ أكثر من عام بقليل، منذ تعيينه كقائد ثان، أثار الأمير محمد الكثير من الدهشة وتسبّب في الكثير من الذعر. لقد حرّض على تدخل عسكري كارثي وغير فعّال حتى الآن في الحرب الأهلية في اليمن، حيث حرّر مجموعة من “الشياطين” من الأَسر التاريخي وفرَض معاناة إنسانية هائلة على سكان اليمن المدنيين. وفرض حصاراً بحرياً وبرياً على قطر. كما احتجز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض، وبدأ نزاعاً مع كندا، واستدعي السفير الألماني في حين منع الحكومة السعودية من التعامل مع الشركات الألمانية.
يدَّعي أنصار ولي العهد السعودي أن لديه أسباباً مشروعة لكل هذه الأعمال. إنهم يلومون التحيّز الإعلامي والمعلومات المُضلّلة العامة عن المملكة العربية السعودية لتغطية الصحافة الدولية السيئة للأمير محمد. لكن العالم لا يزال متشككاً، والنخب السياسية قلقة بشكل واضح من التحرك السياسي الخارجي المُقبل لولي العهد.
الواقع أن بعض القلق بشأن السياسة الخارجية السعودية في ظل نظام القيادة الحالية له ما يبرره. يفتقر الأمير محمد إلى الخبرة في الشؤون المُعقّدة في العالم، ويبدو أنه غير قادر على التعلم من أخطائه، وقد وضع الكثير في صحنه بسرعة كبيرة، وأحاط نفسه برجال لا يقولون إلّا نعم. ويَعتقِد أيضاً أنه يتمتّع بدعم غير مشروط من الرئيس ترامب، وهو افتراض غير ثابت في رجل له ميل ملحوظ إلى نبذ “أصدقائه” السابقين إذا شعر بقليل من الخزي أو الغدر والخيانة. كل هذا يجعل الوضع، في أحسن الأحوال، وصفة خطرة لإدارة السياسة الخارجية السعودية. وفي أسوأ الأحوال هي مقدمة لكارثة.
على الرغم من ذلك، هناك حدودٌ للضرر الذي من المحتمل أن تسببه قدرته السياسية على إدارة الدولة. والسبب في ذلك هو الفرق بين الديبلوماسية والقدرة السياسية على إدارة الدولة، حيث أن كثيرين من الناس الأذكياء يفترضون أنهما مرادفتان، ولكنهما ليستا كذلك.
الديبلوماسية تتعلق بالعلاقات بين الدول. والقدرة السياسية لإدارة الدولة تتعلق بانسجام أصول القائد، محلياً وخارجياً، في استراتيجية تشغيل مُوحَّدة. وهنا هي العقبة: أولويات ولي العهد الأمير محمد هي محلية. وهذا يشير إلى أنه وسيظل أكثر تحفّظاً في السياسة الخارجية مما يظن الكثيرون، نيابة عن رؤيته الإصلاحية الداخلية. قد لا يبدو هذا موثوقاً أو مُطمئناً في ضوء كل المشاكل التي سبّبها بالفعل، ولكن إذا اعتقد أحدٌ أن سنته الثانية ستؤدي إلى شيء كتحطيم الإستقرار مثل حرب مع إيران، عندها سيكون الوقت المناسب للضغط على زر الذعر.
إن نجاح المشروع الإصلاحي الكبير لمحمد بن سلمان، الذي أطلق عليه اسم “رؤية السعودية 2030” ، يتطلب أقصى درجات الإستقرار والسيطرة في الداخل. وهذا يُفسر جزئياً توطيده القوي للسلطة: تهميش المنافسين السياسيين المُحتملين، وإسكات المُنتقدين، وسجن النشطاء. لقد خاض ولي العهد السعودي مخاطر كبيرة في محاولة التوحيد والتدعيم هذه، كاسراً ركيزتين أساسيتين للنظام في آن واحد: إقتران آل سعود/ الوهاب الذي حدّد التوازن بين السلطات الدينية والزمنية داخل النظام السياسي السعودي منذ البداية؛ ونموذج الإجماع العائلي الذي يحافظ على وحدة النخبة وسط العائلة المالكة. ويُمكن القول إن اتخاذ مثل هذه المخاطر أمر ضروري لإطلاق عملية الإصلاح، لكن تداعيات القيام بذلك لم تتم إزالتها بعد. إن أزمة كبيرة في السياسة الخارجية، مثل الحرب مع إيران، ستعرِّض عملية الإصلاح بأكملها للخطر لأنها ستُعيد تقوية الفاعل الأكثر قدرة على إلغاء كل شيء يحاول ولي العهد محمد أن يحققه: رجال الدين.
إن أي نوع من الحرب مع إيران – سواء قصيرة أو طويلة أو مُتعمَّدة أو عَرَضية – سوف تُقوّي الزعماء الدينيين السعوديين، الذين لم يكونوا راضين عن الإصلاحات الثقافية والإقتصادية لبن سلمان، وتُمَكِّنهم من استعادة نفوذهم في المجتمع السعودي. وهذا من شأنه أن يُلغي “رؤية السعودية 2030″، التي هي برنامج إجتماعي وبرنامج إقتصادي ضيق، لأن تحقيقها يقتضي كبح صلاحيات المشايخ. إن الخطر ليس في أن رجال الدين في المملكة قد يتركون ولا يدعمون ولي العهد محمد ووالده الملك سلمان في حالة حرب مُقدّسة مع إيران، على الرغم من أنه في تنافس مع أعضاء ساخطين من النخبة السعودية، إن هذا الأمر لم يعد مطروحاً. إن التهديد بالأحرى هو أن دور رجال الدين وسلطتهم سيتصاعدان إلى أعلى الدرجات، لأن التعبئة الوطنية في المملكة العربية السعودية مستحيلة من دون موافقة دينية. من شأن ذلك أن يقوّض كل ما وعد به ولي العهد، ودافع عنه، وعمل لتحقيقه. إن حسّه بالنسبة إلى القدرة السياسية على إدارة البلد يُجبره على تجنّب التراجع في المسألة الحاسمة لصالح سلطة رجال الدين، وهو يعلم أن حرباً كبرى ستُنتِج هذا التراجع بالضبط.
طالما أن الصراع من أجل النفوذ بين الأمير محمد ورجال الدين السعوديين ما زال مستمراً، فإن ولي العهد سيستمر في الحديث بحزم عن إيران، لكن على الأرجح سيمتنع عن الدخول في أي أعمال حرب علنية. ومع ذلك، قد يلجأ الأمير محمد إلى العديد من الخيارات التي لا تتجاوز عتبة الحرب المباشرة. وقد تفكّر القيادة الإيرانية بالطريقة عينها أيضاً، وبالتالي في سيناريو سياسة حافة الهاوية المُتبَادلة، لا يُمكن إستبعاد إحتمال وقوع حوادث. ذات يوم، كتب الديبلوماسي البريطاني الشهير روبرت إس. فانسيتارت عن القيصر الألماني فيلهيلم الثاني: “لم يكن يحب الحرب، لكنه أحب القيام بكل الأشياء التي أدّت إلى الحرب”. الشيء نفسه يُمكن أن ينطبق على محمد بن سلمان.
في اللحظة التي يبرز فيها فائز واضح في التنافس على السلطة المحلية الجاري في السعودية، ينبغي علينا عندها أن نبدأ بالقلق بشأن محمد بن سلمان القَلِق والمتهور. ولكن بما أن هذا الإنجاز لن يحدث في القريب العاجل، فإذا فعل ذلك، يجب علينا أن نحذف بشكل كبير إحتمالية تحوّل المملكة العربية السعودية إلى “دولة مجنونة” حقيقية، والتي حدّدها العالم الإسرائيلي يحزقيل درور على أنها تُظهر مستويات عالية من اللاعقلانية حيث ينحرف سلوكها عن “ما يُعتبر سلوكاً عادياً في السياق الدولي”. وعلى أساس هذا المعيار، فإن القيادة السعودية ليست أكثر جنوناً مما تبدو عليه قيادة الولايات المتحدة هذه الأيام.

• بلال صعب، أستاذ مساعد في جامعة جورجتاون، وزميل كبير ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
• نُشِر هذا المقال بالإنكليزية في “أميركان إنترست” وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى