مواسمُ البكاء فوق ضفافٍ حزينة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في منطقةٍ أقرب إلينا من شراكِ حزنٍ، وأبعد عنّا من شرايين نهرٍ، إندلعت فاجعة ليست الأولى في تاريخ أحزان المناصير ولن تكون الأخيرة. لكن أجفان الأطفال المُسدَلة وبطونهم المُنتَفِخة بماء النهر لن تُثير من الحكومة السودانية كالعادة إلا الشفقة ومن المسؤولين المحلّيين كالروتين إلا الرثاء. يهتزّ جوف النهر ألَماً وتفيض جوانبه حُزناً، وتَبكي السماء ضحكات تحوّلت خَرَساً مُقيماً وبكماً دائماً، لكن هكذا أمور معتادة لا تُحرّك في ذقن مسؤول سوداني شعرة، ولا تحثّه على تحريك قدميه الغليظتين في أي إتجاه لحلّ الأزمة.
“كبنة” إحدى قرى منطقة المناصير، والمناصير لمن لا يعرف قبيلة في شمال السودان تمّ تهجيرها عنوةً منذ عشر سنين تقريباً عندما قررت الحكومة بناء سد مروى. ولما إعتصم بعض المتضررين وسط ميدان الدامر ووقفوا على أطراف مخاوفهم يهتفون “تنهد تنهد عصابة السد”، و”حقنا كامل وما بنجامل”، طمأنهم المسؤولون بأن مشاريعهم التي غمرتها المياه ستعود للعمل، وأن المدارس التي أغلقت فصولها ستعود لتفتح أبوابها عما قريب، وأن الطرق الممزقة ستُعبّد ولن يضطر أطفال المناصير لاعتلاء الأخشاب المتهالكة لالتماس العلم. وصدقت قلوب الناس كالعادة وكذبت الحكومة.
عاد الثائرون إلى أزقتهم الضيقة ليتقاسموا الماء الملوّث والطرق غير المُعبّدة والمنازل الآيلة للتآكل، ليربطوا أحزمة الأمل فوق بطونهم الخاوية في انتظار مواعيد عرقوب. وفجأة، وبعد أعوام بليدة من الإنتظار الممض، يأتي الخبر الصاعقة: “أيها الناس اخرجوا من مساكنكم لتجمعوا ما طرحه النهر من فلذات أكبادكم”. وهناك، على ضفاف نهر لطالما ردّد ضحكات الأطفال العالية ولهوهم البريء، إجتمع أهل المناصير يتراكضون تراكض خيول جريحة ليجمعوا ما تناثر من بقايا أطفالهم: “هذا حذاء ولدي، وتلك حقيبته، بالله هل رأى جثته أيها المفجوعون أحد؟” وفوق الطين اللزج، تتزحلق الأقدام الخشنة وتنهمر الدموع.
المشهدُ ليس جديداً أيها البائسون التعساء. ولن يكون أخيراً أيتها الحكومات اللاهية. فما المواطن في بلادنا الحزينة إلّا رقم على يسار مركب متآكل يغزوه الماء من كل جانب. حتماً سيُشيَّع جثمان إثنين وعشرين ربيعاً مندوبون عن حكومة نهر النيل، ويقيناً سيذرفون الدموع والخطب الرنانة في مواكب الوداع. لكن حزناً آخر صامتاً لن تستطيع صياغته الأفئدة الموجوعة إلى كلمات سيعود من المقابر ليستوطن الديار والطرقات، وسيبقى جاثماً فوق صدور أمهات لن تضطر إلى النهوض باكراً لإعداد الفطور لأطفالهم قبل الذهاب إلى مدارسهم النائية.
أعِدّوا لأهل كبنة أيها السودانيون الطيبون الطعام، فقد أتاهم اليوم ما يشغلهم، وشارِكوهم الحزن على أطفال لن يعودوا للتسابق في أجران القمح ولا لتسلق الأشجار العالية والتلصّص على أسرارهم الصغيرة. شارِكوا أهل كبنة بؤساً ليس غريباً عنهم ولا عنكم، فلطالما شهدتم الفواجع، ولطالما مشيتم في مواكب الحزن أفراداً وجماعات. شاركوهم وجيب قلوبهم ونيران صدورهم وجفاف حلوقهم، ولا تعودوا إلى بيوتكم بعد الوداع لتتناولوا ما لذّ على موائدكم وطاب.
بقي أن أقف صامتاً أمام حزن عمر سليمان، ذلك الرجل الذي غيّب الموت خمسةً من أطفاله في الصباح، ونهش قلب زوجته في المساء، صمتاً يليق بفجيعته. فماذا تعني الحروف وما تقول الشفاه لرجل كان يصرخ في أطفاله كل يوم ليكفّوا عن الصراخ والمزاح والبكاء، ثم يجد نفسه اليوم فريسة صمتٍ يأكله الحزن من كل جانب ولا يشاركه فيه أحد، حتى إمرأته التي لم يحتمل قلبها الفاجعة؟ ماذا تعني الكلمات الممطوطة والحروف المتمايلة فوق السطور أمام عيني رجل لن يُوقظ بناته في الصباح للمدرسة ولن ينتظر أحضانهم عند الظهيرة؟ أيا زوج خنساء الشمال، لك الله، ولنا الوعود الكاذبة والصبر غير الجميل.

• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى