هل يدخل قائد السبسي التاريخ التونسي من طريق مساواة المرأة بالرجل في توزيع الإرث؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

في الثالث عشر من آب (أغسطس) 1956 فاجأ الرئيس الحبيب بورقيبة في خطابه الأسبوعي التونسيين بمبادرةٍ لم تترك أحداً من دون ردّ فعل.
فخلال صيف قائظ، بادر الرئيس التونسي الراحل إلى إعلان مجلة الأحوال الشخصية، التي كانت في حينه ثورة بكل معاني الكلمة، حيث لم تسبقه إليها أية دولة عربية، وحتى اليمن الجنوبي الذي إتبع المقاربة عينها لاحقاً، نكص عنها بمجرد قيام الوحدة بين اليمنين، وسيادة التوجهات الرجعية التي كانت مهيمنة في اليمن الشمالي وعاصمته صنعاء، هذا عدا لبنان الذي تحكمه طوائف متعددة والذي يتميز بقوانين مختلفة للأحوال الشخصية.
وعلى صغر سنّي نسبياً في ذلك الحين، فإني ما زلت أذكر الإنقسامات المجتمعية التي كان أبرز سماتها غياب المرأة التي كانت المعنية الأولى بذلك الإصلاح العميق، والذي بدا اليوم أنه لا غنى عنه.
خالي الشيخ محمد الفراتي، إمام الجامع الأعظم في صفاقس، الذي كنت أعتبره من المتفتحين، إستقال من خطته. ولم يكن من بين كبار العلماء في المجال الديني في صفاقس سوى المفتي محمد المهيري الذي رأى منذ ذلك الحين إيجابية في إعلان الرئيس الذي إعتبره عودة إلى روح الإسلام، كما كان يرى كبار المصلحين منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفي مقدمتهم قاسم أمين في مصر ولاحقاً الطاهر الحداد في تونس، من رواد تحرير المرأة.
وبقوة الدولة المستبدة ولكن المستنيرة، فرض بورقيبة مجلة الأحوال الشخصية، من دون عناء يُذكر وباقتناع كبير ودفعٍ من أحمد المستيري وزير العدل آنذاك، ومحمد العنابي رئيس محكمة التعقيب وواضع ومحرر نصوص تلك المجلة التي إعتُبرت في حينه قمة التقدمية بعكس كل ما يقال بشأن نسبتها، وهي اليوم من ترسانة القوانين الأكثر تقدمية في العالم العربي والعالم الاسلامي باستثناء تركيا، التي تسعى حكومتها الإخوانية من دون فلاح يُذكر للقضاء على التراث الأتاتوركي وما جاء به من روح تقدمية.
واليوم نجد أنفسنا أمام التحدي عينه، ولكن ما كان سهلاً زمن بورقيبة في عصر الحكم المطلق، يبدو اليوم عسيراً في زمن الديموقراطية، وعدم القدرة على إستعمال جهاز السلطة التنفيذية حتى للإصلاح مهما كان ضروريا، وما ينبغي أن يكون مُحاطاً بحد أدنى إن لم يكن أكثر من التوافق، ليمر، هذا إذا لم يكن من الضرورة أن يحوز على غالبية برلمانية واسعة، من الأفضل أن تكون أوسع ما يُمكن.
لعل القضية اليوم بعد أكثر من ستين سنة على إصدار مجلة الأحوال الشخصية، هي قضية المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، أما البقية مما جاء في تقرير الكوليب (1) فهو ثانوي وبالعرض. ويقول المتقولون إنه ينسخ ما جاء في القرآن الكريم ويعوضه، بنصوص جديدة أو يحاول أن يعوضه بقوانين وضعية تتناقض مع النص القرآني.
وحتى نبقى داخل هذا المنطق فهناك ثلاث حجج ينبغي للمرء أن يقف عندها:
أولها أن تطور المجتمع فرض إلى حدود معينة تلك المساواة ـ فالمرء عندما يكون عاقلاً رشيداً، هو حر في ما يملك من مال أو عقار أو أسهم، وبالتالي فله كامل الحرية في توزيعها بين أولاده لا فرق بين ولد وبنت، والأمثلة اليوم ومنذ سنوات طويلة قائمة على وجود الكثير من السلوك. ومنذ صدر قانون ” الهبة ” قبل حوالي 30 سنة ، تم اللجوء إلى ذلك، ولا نقول على نطاق واسع، ولكن بصورة مضطردة الأهمية.
وثانيهما أن كثيراً من العائلات، تشهد بعد وفاة المُورِث تطوّع الاخوة الذكور بالقسمة المتساوية للتركة، خصوصاً عندما تكون لهم أخت واحدة.
ثالثها، أن المُشرِّع فيما إذا أصبح أمر الميراث قانوناً جديداً صريحاً إفترض أمرين إثنين:
1/ القانون العام تتم بموجبه قسمة التركة بالمساواة بين الإخوة والأخوات ذكوراً وإناثاً.
2/ يمكن للمورث إذا لم يكن موافقاً على القسمة المتساوية لتركته وفي قائم حياته ، أن يترك وثيقة ستكون في الغالب عادلة (أي محررة عند كاتب عدل) يطلب فيها أن تتم قسمة تركته وفقاً لـ”الشريعة”.
وبدل أن يكون الأمر أوتوماتيكياً بالنسبة إلى الميراث، وفقاً لما كان معمولاً به يصبح مشروطاً بإرادة معلنة وموثقة من قبل المُورِّث.
وبهذه الصورة يكون شرط المساواة الذي نص عليه الدستور والنصوص والمواثيق الدولية قائماً، وآخرها ما صادق عليه مجلس نواب الشعب قبل أيام ومن دون معارضة، من وثيقة حقوق الانسان الإفريقية، التي تنص على المساواة الكاملة بين الجنسين وأيضاً بين الأعراق.
كما تبقى الحرية كاملة للمُورِّث إذا إرتأى ذلك، في اللجوء إلى القواعد المعمول بها حتى الآن بالنسبة إلى الميراث، وذلك بالتعبير عن حريته في الاختيار .
وإذ رأى الكثيرون أن المساواة بهذه الطريقة تبقى منقوصة، فإن الحقيقة أيضاً تتمثل في إمكانية المُورّث التنازل، بالطريقة التي يريدها عن ملكيته، وتقسيم تركته بتلك الطريقة أو باعتماد الوصية للأحفاد، فيما يهم الثلث لتفويض الذكور عن الإناث، والحيل هنا متعددة ولا تدخل تحت حصر.
كان الرئيس الأسبق الذي إعتبر نفسه أباً للنظام السياسي الذي أقامه على أسس من الحداثة، قد حاول ومنذ 1956، المساس بموضوع الارث باتجاه المساواة، وعلى شجاعته في إتخاذ المبادرات ومنها مجلة الأحوال الشخصية، التي كانت فتحاً حقيقياً آنذاك، ورغم ما كان يتمتع به من دالة على غالب الشعب الذي يعترف له بالفضل في تحرير البلاد، وإنشاء دولة عصرية، فإنه لم يوفَّق في ملامسة هذا الموضوع، ولا غيره مما جاء في لجنة الحريات والمساواة، وكان وراء ذلك سببان:
أولهما أنه كان يحرص على وضع تحركه في هذه المجالات الحساسة ضمن المرجعية الدينية، باللجوء إلى علماء من رجال الدين ومن القضاة، وبموافقة البورجوازية التونسية، خصوصاً في العاصمة التي كانت متفتحة على الأفكار والسلوكات الجديدة الوافدة. ولعل الاستثناء الوحيد هو دعوته الشاذة للإفطار في رمضان.
وثانيهما، أن دستور 1959 الذي كان هو راعيه، والذي فشل في تضمينه علمانية الدولة، لم يُمكّنه بإعلان تونس دولة مدنية (الفصل الثاني من دستور 2014) وأيضاً تشبثها بالقيم والمواثيق الدولية وكونيتها، وهو ما تسنى اليوم بفضل الدستور الجديد الذي ضمن تلك المبادئ، وجعل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، يقفز لتحقيق ما فشل بورقيبة في تحقيقه، أو على الأصح يحاول ذلك، معتقداً أنه سيجر حركة “النهضة” إلى ما يتفق مع دستور تقول أنه كان لها شرف الإشراف على صياغته خلال فترة حكمها (2012/2014)، ولا يسعها اليوم أن تقف في مواجهة ما نص عليه من مبادئ ولو جزئياً، ما يعتبر نكوصاً من جانبها عما جاء في ذلك الدستور، الذي إضطرت للحقيقة إلى القبول به تحت ضغط الشارع، في إعتصام باردو، وتحسّباً أيامها من أن يصل التناقض داخل المجتمع لما وصل إليه في مصر، مع عواقبه غير المحمودة.
إذن فإن السبسي، وهو على قدر كبير من الدهاء السياسي والذكاء المفرط وحتى الانتهازية بمعناها الايجابي، وجد أنه قد يكون بمستطاعه أن يحقق ما لم يحققه بورقيبة، وأن يدخل التاريخ من بابه الواسع بإنجاز ليس أقل أهمية من مجلة الأحوال الشخصية، سيخلده التاريخ بواسطتها كما تم تخليد بورقيبة بواسطة تلك المجلة، التي سينالها هي الأخرى التطوير وفقاً لما جاء في تقرير اللجنة، هذه المرة بعد العرض على البرلمان، ليس كما حصل في العام 1956 ، وقد أبرزت صور مسيرة الاثنين التي لا بد من القول إنها كانت مخيبة للآمال حجماً، تماما كمسيرة السبت التي نظمتها جهات قريبة من “النهضة”، إن لم تكن “النهضة” من وراء الستار، أبرزت أن “حداثيين” كانوا يحملون صور بورقيبة، بعد أن كانوا أو كان آباؤهم من ألد خصومه.
فشلت معركة الشارع سواء التي بادر بها الإسلاميون، أو تلك التي أقدم عليها مناصرو اللجنة. والآن ستعود إلى مكانها الطبيعي، لا الشارع ولا منابر الجوامع لتتحول المعركة خلال السنة البرلمانية الجديدة بداية من شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، إلى ما تحت قبة مجلس الشعب. فأي سلاح في المواجهة سيكون الأمضى؟ ولمن ستكون الغلبة؟ وفي أي صف سينتظم النهضاويون؟ ومن سيقف معهم أي حزب منصف المرزوقي الصغير برلمانياً (أي الحزب) أو محمد عبو الأقوى عدداً وأعلى صوتاً، أو سالم الأبيض أو غيرهم، وكلهم ينتمون إلى أحزاب تقدمية على الورق، ولكنها في مواقفها وتصويتها ، تجدها على طرفي نقيض مع التصورات الحداثية.
الباجي سيقدم إن لزم الأمر في مواجهة مع “النهضة”، التي بنى معها وفاقاً للحكم، ربما يرى أنه جاء الوقت لفضّه. حسابياً فإنه في معركة الإرث يدخل فائزاً عددياً، ولكن حزبه الضعيف بحكم سيطرة الدولة عليه، بفضل الابن المدلل حافظ، ليست له أي حظوظ في ربح معركة الرئاسيات ولا التشريعيات، وهذا ما دعا ندائيين ومشرّعين وغيرهم للضغط على الشاهد للإعلان قريباً عن حزبهم الذي ينطلق بكتلة، تقول الأخبار إنها ستضم في بدايتها ما بين 40 و50 نائباً منفلتين من قبضة حافظ قائد السبسي وقبضة محسن مرزوق وقبضة مهدي جمعة وقبضات عديدة أخرى.
لكن التهديد اليوم يكمن في ما يعلنه مقربون من “النهضة”، ومن كتل أخرى ، من أن إنتصار قانون للإرث حسب رغبة الباجي قائد السبسي في المجلس، لن يكون نهاية المطاف ولن يكون إلّا ربحاً لمعركة وقتية لا ربحاً للحرب، و سيكون مصيره الإلغاء في مناسبة إنتخابات مقبلة تفوز فيها “النهضة” وذيولها بغالبية ولو نسبية، تمكنها من التصويت لوضعه في سلة المهملات، والعودة الأكيدة للنصوص الدينية “وللذكر مثل حظ الأنثيين” ، و”يا ناس ما كان باس، مرحلة وتتعدى وسيعود الدر إلى معدنه”.
ولكن هل يُعتبَر هذا موقفاً مسؤولاً؟ وهل استطاعت “النهضة” وبانتصارها في العام 2011، أن تُغيّر شيئاً من القوانين الوضعية، أو تفرض قوانين جديدة تستمد روحها من الشريعة؟

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى