هكذا يتم تشكيل سوريا الجديدة

ما هو شكل سوريا الآتي بعد إنتهاء الحرب؟ هل ستُقسَّم؟ هل ستكون فيديرالية؟ أو كونفيديرالية؟ أم أنها ستبفى كما هي؟ أسئلة يحاول الخبير السويدي المتخصص بشؤون الشرق الأوسط آرون لوند الإجابة عنها في التقرير التالي:

الرئيس رجب طيب أردوغان: هل يتبع في سوريا الحل نفسه الذي إتبعه في قبرص؟

بقلم آرون لوند*

بعد سبع سنوات من الحرب في سوريا، فإن نهاية اللعبة تبدو هنا. لقد تم تجميد جميع الخطوط الأمامية الرئيسية من طريق التدخل الأجنبي، والعمل العسكري الآن يعتمد على الصفقات السياسية التي تتم بوساطة خارجية. ومن الممكن أن تكون النتيجة تقسيماً واقعياً للبلاد.
إستطاعت قوات الرئيس السوري بشار الأسد المدعومة من روسيا (وإيران والميليشيات التابعة لها) في العامين الماضيين من السيطرة على معاقل المتمردين المعزولة، مثل شرق حلب والغوطة. وفي الآونة الأخيرة، إستعادت المنطقة الواقعة على طول الحدود مع الأردن والأراضي القريبة من مرتفعات الجولان – ولكن عند هذه النقطة، يبدو أن الثمار المُتدَلِّية قد نفدت.
كان مشهد الديبلوماسيين الروس الذين تنقلوا بين الإسرائيليين والسوريين والإيرانيين والأميركيين لتخفيف الشروط حول عودة الأسد إلى خط وقف إطلاق النار لعام 1967 في الجولان علامة على أمور مقبلة. في النهاية، رضخت إسرائيل وقبلت بإعادة مراقبة روسية للوضع القائم قبل العام 2011، لكن ليس من الواضح إذا كانت الأمور ستكون سهلة في بقية سوريا، حيث يحمي المناطق الثلاث التي ما زالت خارج سيطرة الأسد جنود من الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي (الناتو) وتخيم عليها ديبلوماسية معقدة.
إن أصغر منطقة لا تزال خارج نطاق سيطرة النظام السوري هي تنف. في هذه الفقاعة التي يبلغ طولها 55 كيلومتراً حول المعبر الحدودي مع العراق، هناك بضع مئات من القوات الأميركية والمتمردين السوريين المتحالفين معها، ظاهرياً لمطاردة فلول تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وافقت روسيا على عدم تحدي الوجود الأميركي في تنف، لكن ما تريد الولايات المتحدة القيام به بالنسبة إلى هذا المكان ما زال غير واضح. لقد خسرت تنف معظم أهميتها حيث أن المعركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” قد تراجعت، لكن هناك ضغطاً سياسياً قوياً في واشنطن يريد بقاء الجيش الأميركي في هذا الجيب من الأراضي لمجرد الضغط على دمشق وموسكو وطهران. وطالما يُمكن للبيت الأبيض أن يُقنِع نفسه بأن المال الذي يُنفَق هناك يُنفَق بشكل جيد، لسبب إستراتيجي أو آخر، ستبقى تنف خارج سيطرة الحكومة المركزية.
في شمال شرق سوريا، قامت قوات سوريا الديموقراطية، (قسد)، بإنشاء كيان شبه إشتراكي مستقل يقاتل تنظيم “الدولة الإسلامية”، مدعوماً بنحو 2000 جندي أميركي. وتتكون قوات سوريا الديموقراطية من أكراد وعرب وسريان، لكن ليس سراً أنها خاضعة لسيطرة حزب العمال الكردستاني، العدو اللدود لتركيا. على مدى السنوات القليلة الماضية، ناضل المبعوثون الأميركيون لإقناع الأتراك – الذين لا يشعرون بإرتياح لوجود معقل حزب العمال الكردستاني على حدودهم الجنوبية كما كانت الولايات المتحدة غير مرتاحة للصواريخ السوفياتية في كوبا – بعدم الهجوم.
لا يقتصر نشر القوات الأميركية على منع مهاجمة الأتراك فقط، بل يمنع أيضاً قوات الأسد من دخول المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية. لكن الحقيقة المتمثلة في أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يواصل القول إنه يريد إعادة القوات إلى الوطن قد أقلق قادة “قسد”. ليس لديهم سلاح جوي ولا دروع ولا إقتصاد قابل للحياة ولا أصدقاء أقوياء بصرف النظر عن الولايات المتحدة. إذا تُركوا لوحدهم، فإنهم لا يستطيعون صد الأسد أو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومع ذلك، من بين الإثنين، فإنهم يفضلون الأسد. لذا زار ممثلو قوات سوريا الديموقراطية أخيراً دمشق لاقتراح نظام حكم لامركزي في سوريا، وإدماج وحدات “قسد” في الجيش السوري، ووضع حدٍّ للتمييز ضد الأكراد من قبل الحكومة. من جهته لن يقبل الأسد بمشاركة حقيقية في السلطة، لكنه قد يكون مستعداً لتلبية بعض مطالب قوات سوريا الديموقراطية الملائمة له وتهميش الأخرى، في حين يوفر الحماية لهم ضد تركيا. في المقابل، سيُطلب من قوات سوريا الديموقراطية أن تطلب من أميركا الخروج من الباب وإعطاء المفاتيح للأسد.
قد يبدو هذا النوع من تطور المؤامرة مناسباً تماماً مع رغبة ترامب في مغادرة سوريا، ولكن صناع السياسة الأميركيين أيضاً قلقون من عودة الجهاديين والمعارضين للإذلال العلني على يد دمشق. وما لم، أو حتى، يقول ترامب بخلاف ذلك، من المرجح أن بعض المزيج من القصور الذاتي والإيديولوجية سيُبقي الولايات المتحدة متورطة في شمال شرق سوريا، مما يجعل تلك المنطقة محظورة على الأسد.
في هذه الأثناء، تُهيمن تركيا على شمال غرب سوريا، كجزء من عملية أستانا الروسية – التركية – الإيرانية المشتركة التي تسعى إلى حل أو تجميد النزاع وفق شروط مواتية لتلك الدول الثلاث. لكن تركيا لا تستطيع العمل بأمان في الشمال الغربي من دون تعاون روسي.
في صيف العام 2016 ، أرسل أردوغان جيشه إلى مدينة الباب خارج حلب، لدعم تحالف المتمردين السوريين. بعد ذلك بعامين، إستولت القوات التركية على جيب عفرين المجاور. وقد سهّلت موسكو كلا التدخّلين، سامحةً لأردوغان أن يحتل جيب حدود طالما لن يهاجم حلفاؤه من المتمردين قوات الحكومة السورية. إنها صفقة جيدة بالنسبة إلى روسيا، لأنها تجعل عضواً أساسياً في حلف الناتو يعتمد على موسكو.
من جهته يبدو الأسد أقل حماساً، بعد أن شاهد بفزع وإزدراء كيف تحوّلت الباب وعفرين إلى الإعتماد على تركيا: الكهرباء موصولة الآن عبر الحدود، وتُدرَّس اللغة التركية في المدارس، وتدفع أنقرة رواتب المتمردين، ويشرف الأتراك على الشرطة والإدارة المحلية، وسُمّيت الساحات العامة بإسم أردوغان بدلاً من الأسد.
في إدلب، جنوب عفرين، آخر محافظة متبقية في سوريا خارج سيطرة النظام، أصبح التأثير التركي أكثر ضعفاً. يحاول أردوغان تغيير ذلك، لكن إدلب هي “بندقة” صامدة يصعب كسرها. المنطقة أكبر من عفرين والباب مجتمعتين، وقد إستوعبت مئات الآلاف من النازحين السوريين، وكثير منهم تحت ما يسمى صفقات الإخلاء التي نقلت السكان من المناطق المحاصرة بالقرب من دمشق وحلب وغيرها من معاقل المتمردين السابقة. ويُحذر مسؤولو الأمم المتحدة من أن أي هجوم قد يؤدي إلى نزوح جماعي. ومع ذلك فإن وجود الجهاديين التابعين لتنظيم “القاعدة” والقريبين منهم في إدلب يُعتبَر غير مقبول بعيداً من المعسكر المؤيد للأسد.
بين تشرين الأول (أكتوبر) 2017 وأيار (مايو) 2018، قام حوالي 1300 جندي تركي ببناء عشرات المواقع الاستيطانية على حواف المحافظة، بعد أن أعطت روسيا وإيران الضوء الأخضر على خطة دُبِّرت في أستانا لتجميد القتال بين المتمردين والنظام في الوقت الذي تحاول أنقرة وضع إسلاميين معتدلين أكثر إستساغة في موقع المسؤولية. بالنسبة إلى أردوغان، إن الحفاظ على الهدوء في إدلب هو أمر ملحّ لمنع وقوع أزمة لاجئين؛ تستضيف تركيا بالفعل 3.5 ملايين سوري. وخوفاً من أن يكون الأسد على وشك أن يدور نحو الشمال، يشير المسؤولون الأتراك الآن إلى موسكو بأن الهجوم على إدلب سيعبر “الخط الأحمر” وينتهك شروط إتفاق أستانا.
من جهتها تريد موسكو أن يرحل الجهاديون عن إدلب، خصوصاً بعد سلسلة من هجمات الطائرات من دون طيار على القاعدة الجوية الروسية المجاورة، جنوب اللاذقية. لكن لدى الروس أيضاً حوافز قوية لدعم الوضع الراهن الذي توسطت فيه في أستانا. إنهم يعرفون أن الأسد يستطيع البقاء في السلطة من دون إدلب أو عفرين أو الباب، ولا يرى الديبلوماسيون الروس أي سبب مُلحّ لإنهاء الجمود حيث يتنافس الطرفان لصالح موسكو. وقال المبعوث الروسي الخاص لسوريا ألكسندر لافرينتييف في 31 تموز (يوليو) إن هجوماً واسع النطاق على إدلب “غير وارد”، مناقضاً ما قاله نظيره السوري.
هذه التفاهمات التركية – الروسية تضع الأسد في مكان صعب. سيجد جيشه صعوبة في إستعادة إدلب من دون دعم روسي، وإجبار الكرملين على إختيار جانبٍ لن يكون بالضرورة في صالحه.
ومع ذلك، ربما تريد روسيا أن ترمي عظماً للأسد، فهناك الكثير من المناطق الرمادية بين الإستعادة الكاملة وعدم القيام بأي شيء. يُمكن لروسيا أن تدعم هجوماً كبيراً على المناطق النائية مثل مدينة جسر الشغور، التي تقع في موقع إستراتيجي، جنوب الحدود التركية، أو غيرها بالقرب من حلب. وإذا بدا أن التداعيات قابلة للإدارة والإستيعاب، فقد يكون هذا النوع من الهجوم المحدود مقبولاً لتركيا، كما قد تكشف الأيام المقبلة.
مع توجه الدبابات السورية إلى الشمال وتزايد التوتر، يتوجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى أنقرة هذا الأسبوع. وما سيتوافق عليه مع نظيره التركي سيساعد على تحديد العديد من هذه النتائج في سوريا. قد يتم تسليم بعض أجزاء إدلب إلى الأسد، ولكن إذا قررت روسيا عندئذ أن تضع إبهامها في الميزان لصالح تركيا، فإن أجزاء كبيرة من شمال غرب سوريا قد تكون بعيدة من متناول الأسد في المستقبل المنظور.
لن تكون هناك نهاية نظيفة للحرب، لكن هل تحتاج موسكو فعلاً إلى ذلك؟ من مولدوفا إلى أوسيتيا الجنوبية وشرقي أوكرانيا، لدى الكرملين عادة ترك الأوضاع الفوضوية قائمة لصالحه. وكما رأينا في قبرص، فإن تركيا ليست غريبة عن مفهوم الحلول المؤقتة التي لا حل ونهاية لها.
بعد سبع سنوات، لم تعد الحرب السورية صراعاً على نظام الأسد ومستقبله، ولكن على شكل البلاد التي سيواصل حكمها. إن مصير المناطق التي لا تزال بعيدة من سيطرته أصبح الآن بين أيادٍ أجنبية.

• آرون لوند هو زميل في مؤسسة القرن (Century Foundation). وهو كاتب سويدي متخصص في شؤون الشرق الأوسط، وقد كتب على نطاق واسع حول السياسة السورية. كان عمله مدعوماً بمنحة بحث من مؤسسة هاري فرانك غوغنهايم. بين عامي 2013 و2016 ، قام بتحرير موقع سوريا في أزمة لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، حيث كان شريكاً غير مقيم في العام 2016. وهو أيضًا زميل في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندرو.
• كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى