مع العقوبات الأميركية التي تلوح في الأفق، إيران تواجه أزمة إقتصادية تُهدّد بالإنفجار

أدّى إنسحاب الولايات المتحدة في أيار (مايو) الفائت من الإتفاق النووي مع إيران إلى تدهور الأحوال الإقتصادية في البلاد بشكل خطير الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الإحتجاجات الشعبية هزّت قلب النظام.

الرئيس حسن روحاني: هل يتلقّف دعوة دونالد ترامب للحوار؟

بقلم محسن ميلاني*

بعد سنوات قليلة على قيام الثورة الإيرانية في العام 1979، تجاهل آية الله روح الله الخميني تحذير أحد مساعديه القلقين بشأن التضخم بإعلانه أن “هذه الثورة ليست حول سعر البطيخ”. قد لا يملك خلفاؤه رفاهية إفتراض أن الجوهر الديني للجمهورية الإسلامية هو أكثر أهمية بالنسبة إلى معظم الإيرانيين من وضعهم الإقتصادي. وبالفعل، فإن سعر البطيخ والسلع الضرورية الأخرى قد أوقع إيران الآن في أزمة إقتصادية مُحتملة التفجر، مع موجات من الإحتجاجات العامة. وتفاقم الوضع بسبب قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب فى أيار (مايو) الماضي الإنسحاب من الإتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض العقوبات.
تعتقد إدارة ترامب أنه من خلال ممارسة “أقصى قدر من الضغط”، ستعود إيران حتماً إلى طاولة المفاوضات، أو تواجه الإنهيار أو حتى تغيير النظام. إن الخنق الإقتصادي هو جوهر هذه الاستراتيجية. من خلال فرض عقوبات على صناعة النفط الإيرانية والمؤسسات المصرفية، تخطط أميركا لإضعاف إقتصاد إيران واستفزاز الطبقة المتوسطة الكبيرة، إلى جانب الطبقات العاملة والفقيرة، للوقوف ضد النظام. ويبدو أن واشنطن أخذت قتالها إلى داخل إيران، حيث أطلقت “هجوماً عماده الخطابات والإتصالات عبر الإنترنت يهدف إلى إثارة القلاقل” محلياً، وفقاً لمسؤولين أميركيين تحدّثوا إلى “رويترز”.
يعتقد ترامب أن إستراتيجيته تعمل بشكل جيد. “إيران تتداعى”، قال في مقابلة أجرتها معه أخيراً “فوكس نيوز”. متابعاً: “لقد إندلعت إحتجاجات كبيرة في جميع أنحاء البلاد، وربما كانت أكبر مما عرفته البلاد في أي وقت سابق. وهذا كله يحدث منذ أن أنهيت تلك الصفقة [النووية]”. وبينما لا يزال تأثير الولايات المتحدة في هذه الإحتجاجات غير واضح، فإن إيران ليست في طريق الإنهيار، لكنها تستعد وتتحضّر سياسياً واقتصادياً لمواجهة العقوبات الأميركية المتجددة والإضطرابات الداخلية المُحتَمَلة.
شهدت إيران خمس حلقات من الإحتجاجات، بسبب المظالم الإقتصادية، في أقل من عامين منذ إنتخاب ترامب – أكثر من أي وقت مضى منذ الانتخابات الرئاسية الإيرانية المتنازع عليها في حزيران (يونيو) 2009 والتي أدّت إلى مظاهرات الحركة الخضراء الضخمة. إن الغضب الشعبي على الإقتصاد هو أكبر إخفاق مالي منذ عقود في إيران. على مدى السنوات الثلاث الماضية، أعلنت خمس مؤسسات مالية غير مُنَظَّمة بشكل كافٍ وفاسدة إفلاسها، حيث إحتالت على الآلاف من الإيرانيين، ومسحت مدخراتهم.
إشتعلت الإحتجاجات الأولى، على مدى بضعة أسابيع في شهري كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) الفائتين، بسبب المنافسات الداخلية بين النخبة، وانتشرت كالنار في الهشيم، لأسباب غير واضحة، إلى 155 مدينة إيرانية وبلدات صغيرة – جميع المناطق المنكوبة إقتصادياً ذات معدلات بطالة مرتفعة. في بعض الأحيان، لم تكن للإحتجاجات أي قيادات أو أجندة، رغم أن المتظاهرين كانوا يرددون شعارات ضد الحكومة والمرشد الأعلى. لكن الحركة فشلت في الإنتشار إلى المدن الكبيرة أو جذب أنصار الطبقة المتوسطة. وأكّدت الحكومة أن 25 شخصاً قُتلوا في الإحتجاجات، لكنها لم تذكر كيف. واعتُقل نحو 3700 شخص معظمهم من الشباب.
ووقعت المجموعة الثانية من الإحتجاجات في مدينة كازرون الجنوبية في أيار (مايو)، حيث تحوّل شجار محلي بسبب تقسيم المدينة إلى بلديتين منفصلتين إلى مظاهرات أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص و300 معتقل، وفقاً للسلطات. وتم تنظيم المجموعة الثالثة من الإحتجاجات، في أيار (مايو) أيضاً، بواسطة سائقي الشاحنات الذين طالبوا بتخفيض تكاليف الوقود وخفض تكاليف التأمين وظروف عمل أفضل؛ وقد إنتشروا في 160 مدينة. بعد إعتقال 17 شخصاً، زعمت الحكومة أنها توصلت إلى إتفاق مبدئي مع السائقين.
ووقعت المجموعة الرابعة من الإحتجاجات على مدى ثلاثة أيام في أواخر حزيران (يونيو)، نظمها أصحاب المتاجر والتجار في طهران و24 مدينة أخرى، الذين إشتكوا من إنخفاض قيمة العملة الإيرانية، الريال. في طهران، كانت التظاهرات تتمحور في البازار الكبير، الذي لعب تجاره دوراً رئيسياً في جميع الحركات الاحتجاجية في التاريخ الإيراني الحديث. وردّد بعض المتظاهرين هتافات ضد تورط إيران في الحرب الأهلية السورية وفي لبنان. وقد إعتقلت الحكومة أكثر من 100 شخص. وجاءت الجولة الأخيرة من الإحتجاجات في تموز (يوليو) في ثماني مدن في إقليم خوزستان الجنوبي الذي ضربه الجفاف على إمتداد الخليج الفارسي بسبب نقصٍ مُحرج في مياه الشرب. وإدّعت الحكومة أيضاً أنها توصلت إلى إصلاح مشاكل المياه، ولكنها ما زالت تعتقل حوالي 150 متظاهراً.
على الرغم من خطورتها – تقول جماعات حقوق الإنسان إن العدد الفعلي للوفيات والإصابات والإعتقالات أعلى بكثير من المُبلّغ عنه – فإن هذه الاحتجاجات لم تُهدّد بشكل جوهري الجمهورية الإسلامية، علماً أن السرعة التي إنتشرت بها الموجة الأولى من الإحتجاجات قد هزّها في جوهرها. ويبدو أن قوات الأمن قد تعافت من تلك الصدمة وستتصرف بسرعة أكبر وبحزم أكثر لمنع المظاهرات في المستقبل.
بلا شك، هناك إستياء على نطاق واسع بين الإيرانيين ودعوة متزايدة للتغيير الحقيقي. لكن إستراتيجية واشنطن المتمثّلة في “أقصى قدر من الضغط”، والتي تعتبرها طهران تهديداً وجودياً، من المرجح أن تجعل الجمهورية الإسلامية أكثر قمعية، ونخبها أكثر وحدة، وسكانها أكثر قومية. بعد كل شيء، سوف تؤثر عقوبات الولايات المتحدة سلباً في معظم السكان. هناك فرصة جيدة للإحتجاجات يُمكن أن تستمر أو تنمو، ولكن على خلاف ما تخيلته إدارة ترامب، من غير المحتمل أن تؤدي الإحتجاجات المستقبلية إلى الإطاحة بالجمهورية الإسلامية. إن النظام راسخٌ جداً، خصومه منقسمون جداً، وقسم كبير من السكان يخشى أن تؤدي الاضطرابات الداخلية إلى الفوضى وتفكك البلاد، وتحويلها إلى سوريا جديدة. علاوة على ذلك، قد تُقلّل واشنطن وتستخف من صعوبة تحويل الإحتجاجات الإيرانية الشعبية إلى حركة وطنية مواتية للمصالح الأميركية. فقد تزعزع إستقرار إيران أو إبصال حكومة عسكرية إلى السلطة، وهذا يجعل منطقة الشرق الأوسط غير آمنة للجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة.
على مدى أربعة عقود حتى الآن، أظهرت الجمهورية الإسلامية على أنها قادرة على الصمود وأفضل بشكل نهائي في تقسيم وقمع وإقصاء خصومها من تحسين إقتصاد البلد. وقد أدى توقيع الإتفاق النووي في العام 2015 إلى الوعد بالتغيير، حيث نما الإقتصاد الإيراني بمعدل سنوي جيد بلغ نحو 5 في المئة، وزادت صادرات النفط إلى 2.7 مليوني برميل في اليوم – وهو أعلى مستوى خلال سنوات عدة – ووقّعت شركات غربية صفقات مبدئية بملايين الدولارات في إيران. لكن عندما أعلنت الولايات المتحدة عن خطتها لإعادة فرض العقوبات، توقّف الإقتصاد. ولم يساعد ذلك الرئيس حسن روحاني الذي بالغ في تسويق فوائد الإتفاق النووي.
إن التحدي الأكبر لروحاني الآن هو إعداد وتحضير البلاد للعقوبات الأميركية الوشيكة. الدفعة الأولى تبدأ في السادس من آب (أغسطس) الجاري، وتستهدف صناعة السيارات وتجارة الذهب والمعادن الثمينة وقطاعات أخرى في إيران. وتأتي الدفعة الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل بفرض عقوبات على صادرات النفط الإيرانية وقطاع الطاقة والبنك المركزي. إن مهمة روحاني الأولى تكمن في توحيد الفصائل السياسية المتنافسة. ومع وجود إجماع في طهران على أن هدف واشنطن هو تغيير النظام، فقد إقترب روحاني من المتشددين، بمن فيهم الحرس الثوري القوي، وهو يهندس الآن تصالحاً بينهم وبين الكتلة الإصلاحية التي يقودها.
لكن من الناحية الإقتصادية، عليه أن يتعامل مع الإنخفاض السريع لقيمة الريال، والذي فقد قرابة نصف قيمته مقابل الدولار منذ أن خرج ترامب من الصفقة النووية وأثار هروب رأس المال الأجنبي. وحددت الحكومة الآن السعر الرسمي للدولار بنحو 41 ألف ريال، في حين تجاوزت قيمة الدولار في السوق السوداء 100 ألف ريال، وهو أعلى معدل له على الإطلاق. لتحقيق الإستقرار للعملة، أقدمت الحكومة على إلقاء القبض على عدد من الأفراد الذين إتهمتهم بالتلاعب في السوق، وإستبدلت رئيس البنك المركزي، ومنعت إستيراد أكثر من 1000 مادة غير ضرورية. وهي تفكر في تحصيص السلع الأساسية، كما فعلت خلال الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن الفائت. ولتعزيز النمو، تعتزم الحكومة تقديم حوافز سعرية وضريبية للمستثمرين من القطاع الخاص “للاستحواذ على بعضٍ من 76,000 مشروع حكومي غير منتهٍ أو متوقف”، كما قال نائب الرئيس إسحق جهانجيري أخيراً.
ولكن مع تعهد إدارة ترامب بفرض عقوبات على أي كيان أجنبي يتعامل مع إيران، فإن العديد من الشركات الغربية، مثل بوينغ وإيرباص وسيمنز، قد غادر البلاد بالفعل. وفي الوقت الذي تعتمد فيه إيران على الصين وروسيا للحفاظ على علاقاتهما الإقتصادية، فإنها تشارك في مفاوضات مع القوى الأوروبية لإنقاذ الصفقة النووية وتسعى إلى الحصول على مساعدتها للتهرب من العقوبات الأميركية أو تخفيفها.
حتى الآن، لم تُشكّل إيران رداً سياسياً على سياسة “أقصى قدر من ضغط” التي يعتمدها ترامب، فيما هي تتفاوض مع أوروبا. وإذا فشلت هذه المحادثات فتوقّع من إيران أن ترد بصورة أكثر تصادمية على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، مع تفاقم الوضع الاقتصادي في إيران. لكن عرض ترامب غير المتوقع الذي أعلنه منذ أيام للإجتماع مع روحاني من دون شروط مُسبَقة خلق قناة للحوار. يجب أن تحاول إيران أن تُبقيها مفتوحة.

• محسن ميلاني أستاذ السياسات في جامعة جنوب فلوريدا، والمدير التنفيذي لمركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية فيها. وقد كتب على نطاق واسع حول إيران وسياستها الخارجية. إتبعه على تويتر: @MohsenMilani.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى