كيف إستطاعت روسيا الهيمنة على الملف السوري محلياً وإقليمياً

إستخدمت روسيا بنجاح إتفاقات وقف إطلاق النار المحلية والمفاوضات الدولية لتعزيز موقعها عبرعزل معاقل الثوّار واستيعاب القوى الإقليمية بغية دفعها نحو دعم هجماتها وسياساتها.

فلاديمير بوتين: إستراتيجيته كانت ممرحلة وناجحة

بقلم منى علمي*

يأتي سقوط الغوطة الشرقية ودرعا في أيدي القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد خلال الأشهر القليلة الماضية ليتوّج نجاح السياسة المُنخفضة الكلفة التي تتبعها موسكو في سوريا. ففي غضون أقل من ثلاث سنوات، أتاح الدعم العسكري الذي قدّمته روسيا لنظام الأسد، الذي كان مُحاصَراً في السابق، أن يستعيد أكثر من 60 في المئة من أراضي البلاد، وذلك عبر إستخدام مقاربة محلية وإقليمية مزدوجة وموزّعة على مراحل. لقد أنشأت روسيا، مراراً وتكراراً، مناطق لخفض التصعيد أدّت إلى تجميد مناطق جغرافية واسعة، ما سمح للنظام بتركيز موارده المحدودة على مناطق مُعيّنة. في موازاة ذلك، أطلقت روسيا “عملية سلام” في أستانة أفضت إلى تقسيم المعارضة، إنما والأهم من ذلك، أسفرت عن إستيعاب قوى إقليمية مثل تركيا وإسرائيل عبر زيادة رهاناتها في اللعبة الجيوسياسية السورية. لقد أدّت الإستراتيجية المُحنّكة التي إنتهجتها موسكو في إدارة الحرب دوراً أساسياً في تحقيق النجاحات العسكرية في حلب وحمص، وأخيراً في الغوطة الشرقية ودرعا.
على المستوى المحلي، سعت موسكو إلى تقويض المعارضة عبر تسديد ضربات عسكرية حاسمة لمعاقل الثوّار، وعزلها جغرافياً وقطعها عن الجهات الإقليمية الداعِمة لها. وأتبعت ذلك بإبرام إتفاقات محلية لوقف إطلاق النار، ما ساعد النظام على نقل موارده البرية العسكرية المحدودة إلى الجبهة التالية. وظهرت هذه المقاربة لأول مرة في سقوط حلب في كانون الأول (ديسمبر) 2016. لقد أدّت السيطرة على المدينة إلى طرد جماعي لمجموعات الثوّار، لا سيما إلى إدلب في شمال سوريا، فبات ما تبقّى من سكّان حلب ذوي ميول موحّدة أكثر تأييداً للنظام.
بعد إبرام إتفاقات محلية لوقف إطلاق النار، تمكّن النظام من إعادة تنظيم قواته وشنّ هجمات مُنفصلة في المناطق. وكان المسعى الأول الذي قام به النظام، بعد حلب، هو إستعادة السيطرة على المنطقة الواقعة شرق سوريا من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي كانت يترنّح تحت تأثير الضربات الجوية من التحالف الأميركي. تقدّمت قوات النظام نحو السخنة من طريق تدمر قبل التقدّم أكثر باتجاه الشمال إلى محافظة دير الزور في محاولة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الإستراتيجية في الشمال الشرقي الغني بالمياه والنفط والغاز.
بعد ثلاثة أشهر من إعلان النظام السوري النصر على “الدولة الإسلامية” في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، أطلقت قوات النظام هجوماً برياً وجوياً جديداً في شباط (فبراير) 2018 ضد مواقع الثوار في جيب الغوطة الشرقية المحاصَر، الذي سقط في أيدي قوات النظام في نيسان (إبريل). وسرعان ما إستُتبِع الهجوم بتشكيل “لجان مصالحة” مؤلّفة من سكان محليين ومهمتها تشجيع الثوار في المنطقة على الإستسلام وتسليم أسلحتهم. وقدّمت هذه اللجان أحياناً مساعدة عسكرية للنظام: فقد أورد الموقع المعارِض “عنب بلدي”، في نيسان (إبريل)، أن قوات الأسد قدّمت الدعم للجنة تابعة للشيخ بسام ضفدع، وهو شخصية محلية بارزة موالية للنظام، ما ساعد النظام على محاصرة حي ترما في الغوطة الشرقية.
إستُخدِمت آليات مماثلة قائمة على فرض المصالحة عنوةً للتسريع في سقوط مناطق الثوار الأخرى في جنوب سوريا. فمنذ مطلع العام 2017، عمد النظام – بدعم روسي – إلى زيادة جهود المصالحة المحلية، لا سيما في قرى كفر حور وبيت تيما وبيت سابر وبيت جن في جنوب البلاد. وكان يُطلَب من المقاتلين الذين يرفضون الشروط التي وضعتها لجان المصالحة مغادرة المنطقة، وهم يتوجّهون عادةً إلى إدلب. ويخضع الثوار الذين يقبلون باتفاقات المصالحة لما يُسمّى بـ”تسوية الوضع”، عبر التفاوض على شروط الإستسلام مع لجان المصالحة. حتى إن هذه الآلية أدّت، في حالة فوج الحرمون الذي حارب سابقاً في إطار الجيش السوري الحر، إلى دمج المقاتلين في قوات الاستخبارات العسكرية السورية التي كانت تقاتل “جبهة الإسلام”. وقد طُبِّقت عملية المصالحة نفسها في تموز (يوليو) في بصرى الشام، ما أدّى إلى سقوط المدينة.
في موازاة حملاتها المحلية، دفعت روسيا باتجاه إنطلاق عملية سلام إقليمية لإشراك حلفاء النظام واستيعاب القوى الأخرى التي تدعم مجموعات ثورية معيّنة. لقد قدّمت عملية السلام في أستانة التي انطلقت في العام 2017، إطاراً لإنشاء مناطق محلية لخفض التصعيد، وهدفت إلى وضع حدّ لكل الأعمال الحربية بين النظام والمعارضة. وأتاح ذلك للنظام السيطرة على مناطق الثوار على مراحل، لا بل تسبّب أيضاً بنشوء إنقسامات عميقة داخل المعارضة المفكّكة أصلاً، والتي راح أفرقاؤها يتبادلون الإتهامات بالخيانة.
ضمّت روسيا كلاً من تركيا وإيران، الداعِمة الأساسية للنظام السوري، إلى طاولة المفاوضات. قدّمت أنقرة المساعدات إلى مجموعات ثورية محددة ومدّتها بشريان حياة عسكري ومالي يربطها بجهات أخرى داعِمة في المنطقة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وقطر والسعودية، إنما لم يكن لديها، حتى ذلك الوقت، دورٌ مباشر في عملية السلام. لقد شكّل ذلك حافزاً لإيران وتركيا من أجل التوصل إلى إتفاق منفصل مع روسيا في أيار (مايو) 2017 لإنشاء مناطق محظورة الطيران مُغلقة أمام طائرات التحالف الأميركي، بما في ذلك فوق أجزاء من محافظات إدلب وحمص ودرعا والقنيطرة، وكذلك فوق الغوطة الشرقية.
بعد حصول تركيا على دور في عملية أستانة، تقرّبت أكثر من روسيا وإيران، اللتين أبدتا عن تقبّلهما للمخاوف التي أعربت عنها تركيا والتي تفيد بأنه من شأن إضفاء طابع رسمي على الفيديرالية الديموقراطية في شمال سوريا التي تتمتع بحكم ذاتي ويديرها الأكراد أن يتيح لحزب العمال الكردستاني شنّ هجمات عبر الحدود. وإستمر التقارب الذي كان بدأ مع سقوط حلب – وفق ما ظهر في عملية غصن الزيتون التي شنتها تركيا في عفرين، والتي تزامنت مع الهجوم على الغوطة الشرقية في شباط (فبراير). وسدّد خفض الدعم التركي ضربة جديدة للتمرد، كما عكسَ البُعد الإقليمي للمقاربة الروسية الممرحَلة.
كذلك كانت روسيا مُصمِّمة على فرض الأمن عند الحدود الجنوبية لسوريا. فإسرائيل، التي كانت متخوّفة من التوسع الإيراني، قصفت أكثر من مئة هدف مدعوم من إيران في مختلف أنحاء سوريا إعتباراً من آب (أغسطس) 2017، في ما وصفته موسكو بأنه “إنتهاك سافر للسيادة السورية”، إلا أنها تغاضت عنه. وبعدما هدّد المسؤولون الإيرانيون بالثأر رداً على التصعيد في الهجمات الإسرائيلية في مطلع العام 2018، شنّ “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني هجوماً صاروخياً إنطلاقاً من سوريا ضد إسرائيل في التاسع من أيار (مايو). لكن مع تركيز النظام هجومه في درعا في حزيران (يونيو) 2018، توصّلت إسرائيل وروسيا، وفق ما أُفيد، إلى إتفاق لمنح ضوء أخضر للهجمات الإسرائيلية على المجموعات المدعومة من إيران في سوريا. كذلك إقترحت روسيا إبقاء هذه المجموعات على بعد ما لا يقل عن مئة كيلومتر (62 ميلاً) عن الحدود الإسرائيلية-السورية، بما يؤدّي إلى خفض الهجمات الإسرائيلية ضد إيران، حليفة روسيا الأساسية في سوريا. كذلك سبقت الهجوم على جنوب سوريا محادثات أميركية-روسية-أردنية أفضت إلى إقناع الأردن بخفض دعمه للثوار.
يبدو أن روسيا نجحت في تأمين شكل من أشكال السلام في مناطق النظام، وتجميد النزاع في المناطق الحدودية شمال البلاد وجنوبها. غالب الظن أن موسكو ستستعمل مقاربتها المُمَرحَلة للسيطرة على إدلب في المرحلة المقبلة. في الواقع، على الرغم من الإلتزام الروسي الشكلي بخطة خفض التصعيد، يشنّ سلاح الجو الروسي قصفاً واسعاً على إدلب، في إطار حملة شهدت تصعيداً في شباط (فبراير) بعدما أسقط الثوّار طائرة حربية روسية وقتلوا الطيّار. تقول موسكو والنظام السوري إنهما يستهدفان المجموعات الجهادية المعروفة بوجودها على نطاق واسع شمال البلاد، غير أن عدداً كبيراً من الثوّار من حلب والغوطة الشرقية لاذ أيضاً بالفرار إلى إدلب.
في حين أن السيطرة على إدلب ستستغرق مزيداً من الوقت، نظراً إلى تعدُّد المجموعات الثورية والجهادية، فقد أظهرت الإستراتيجية التي تنتهجها روسيا في إدارة الحرب على المستويَين المحلي والإقليمي، نجاحاً. من شأن هجوم في شمال سوريا أن يحمل في طياته خطر تجدُّد القتال بين الأكراد والقوات الموالية للأتراك، إنما بإمكان روسيا أن تدير هذا النزاع عبر التفاوض على عودة النظام إلى تلك المنطقة، الأمر الذي قد يُهدّئ من مخاوف أنقرة عبر إنهاء وجود الحكومة الكردية المستقلة في المنطقة. على سبيل المثال، تخوض القوات الموالية للنظام في شمال شرق سوريا منافسة مباشرة مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يدعم قوات سوريا الديموقراطية التي يسيطر عليها الأكراد.
من ناحية أخرى، قد يكون إرساء توازن بين المشاغل الإسرائيلية والطموحات الإيرانية على طول الحدود الجنوبية لسوريا أكثر تعقيداً. لقد طالبت إسرائيل، في 23 تموز (يوليو)، بعدم السماح لإيران بامتلاك موطئ قدم عسكري في سوريا، وبأن تُزيل روسيا جميع الصواريخ البعيدة المدى، بما في ذلك إغلاق المصانع السورية التي تنتج صواريخ موجَّهة بدقة. وسوف تتعرض روسيا لضغوط شديدة من أجل الإستجابة للمطالب الإسرائيلية في سوريا عبر إستخدام الوسائل الديبلوماسية حصراً، نظراً إلى أن إيران باتت ماهرة في إستعمال أفرقاء بمثابة وكلاء لها، وفي ترسيخ نفوذها في المناطق التي تعتبرها ذات أهمية إستراتيجية – وفق ما شهدناه في لبنان، ونشهده الآن في سوريا.

• منى علمي زميلة غير مقيمة في المجلس الأطلنطي وزميلة مشاركة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. لمتابعتها عبر تويتر: monaalami@
• عُرَّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى