الباجي قائد السبسي في صف الخاسرين

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة طيلة حياته السياسية يربأ بنفسه أن يكون في صف الخاسرين، ولعلّ أهم إعلان عن ذلك جاء في الرسالة المُوَجَّهة من قلعة سان نيكولا في مرسيليا حيث كان مُعتَقَلاً إلى الدكتور الحبيب ثامر، داعياً رفاقه الباقين بتونس، إلى عدم التورط مع دول المحور أي إلمانيا وإيطاليا واليابان، وكان في تقديره أن المحور سيخسر الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن حزب الدستور لا ينبغي له أن يكون في صف الخاسرين، بل في صف الفائزين حتى ينال جائزة مع من يربحون المواجهة الكبرى. وكان تقديره أن الجائزة تتمثّل في الإستقلال وفقاً للنقاط السبع الواردة في إعلان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون.
ويبدو أن بورقيبة الذي قرأ جيداً كتاب الأمير لـ “ماكيافللي”، إستوعب منه الدرس.
وعلى العكس فإن الباجي قائد السبسي، الذي لا ينقصه الذكاء بل له منه قسط وافر جداً، ولا الدهاء الذي يعتبر سيداً فيه بلا نظير في الوقت الحاضر، لم يستفد من دروس بورقيبة الذي إقترب منه كثيراً وتعلّم، فاندفع كالثور الهائج إلى موقع الخاسرين، على الرغم من أن كل ذي تفكير سياسي سليم كان يعرف مُقدَّماً إلى أين تتجه الريح . وأن هشام الفراتي سيكون وزيراً للداخلية بإرادة الباجي وابنه أو من دون إرادتهما.
ما سبب سقطة الباجي قائد السبسي المدوية، وهو على ما هو عليه من ذكاء ودهاء، وهو ما هو عليه من حساب سياسي لا يخطئ عادة؟
إنه، ونقولها من دون مواربة، خلط ومزج السياسة بالعائلة أو بالشأن العائلي، وانتصاره لابنه ولعائلته (ويقال لابنه ولزوجته وزوجة إبنه)، وإن كنا نحاول دوما تجنب الحديث عن الحياة الخاصة. إن ضرر هذا الخلط من طرف رئيس الجمهورية، تجاوز عائلته، وتجاوز الحزب الذي أسسه ونجح بواسطته، إلى حدّ أخذ يهدّد توازنات الدولة ومستقبل نمطها المجتمعي، الذي قامت حركة صيف 2013 بوضعه في مكانه الصحيح.
جاء الابن المدلل حافظ قائد السبسي، ولم يكن لا في العير ولا في النفير، ليفرض نفسه بقوة الدولة لا بقوة إشعاع أو كاريزما ذاتية ولا خصال ظاهرة ولا خفية، كما في الديكتاتوريات، على حزب كان ناجحاً بدليل نتائج إنتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية، في محاولة توريث ممجوجة، لعلها كانت تستهدف جلوسه في مقعد رئاسة الجمهورية خلفا لأبيه، فتشظى الحزب وانقسم على نفسه إلى شقوق، وكان صرحاً فهوى .
منذ تولي حافظ شهر “حفوظة” قيادة حزب أبيه، أو هكذا يظن هو وأبوه، والحزب الأول، يتدحرج إنقساماً ونتائج وقلة مصداقية. فمن الموقع الأول وبالتدرّج بات في الموقع الثالث، خسر المواقع، وكان ذلك متوقعاً، فعندما حاول أبوه ترشيحه على رأس واحدة من القائمتين الاثنتين في العاصمة تونس، وكان الحزب في أوج قوته، قامت ضجة اضطر معها إلى الانسحاب، فقد كان معلوماً مَن هو وما هي قدراته، وضعف إشعاعه إن كان له إشعاع البتة.
ورغم ذلك فقد تمّ الإعداد بدقة لفرضه على زعامة الحزب الذي أسسه والده مع مجموعة من كبار السياسيين في البلاد إنفرط عقدهم، وذلك بقوة الدولة، ولعب خصمه العنيد اليوم، دور شاهد الزور في فترة ما ، فأدى به يوسف الشاهد لزعامة حزب لا يستحقها وليس له قدرة عليها، إنتهت به إلى أمرين:
1/ تحقيق نجاح مشهود في تحطيم آلة حزبية كانت أمل القوى الحداثية في البلاد، في مواجهة ما يتهددها من إحتمالات الردة، رغم وضوح معالم دستور يبدو قابلاً لكل التأويلات.
ويوسف الشاهد العراب المغدور الذي نصّب حافظ قائد السبسي على رأس الحزب رغم إرادة مؤسسيه ومناضليه، يجني اليوم نتيجة الدور السيىء الذي لعبه، في عداوة من نصّبه على قيادة الحزب، ويصح عليه المثل العربي الشهير “جزاء سنمار”.
2/ فشل ذريع لا في قيادة الحزب، (فهل بقي حزب؟)، ولكن في كل الاختبارات الإنتخابية التي دخلها، وآخرها الانتخابات البلدية بدورتيها بالاقتراع العام، وفي إختيار رؤساء البلديات.
وإذ كان الهدف من تفريغ مقعد ألمانيا في البرلمان، وتعيين صاحبه ككاتب دولة من أجل ترشيح ابن أبيه للمقعد، وهو ما تم رفضه بالمطلق من مناضلي الحزب في ألمانيا، بحيث تم سحب الترشح، وتمت خسارة المقعد، الذي كان يؤمل الأنصار من ىبني وي وي، أن يذهب لابن أبيه بما يمكنه في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، من الترشح ونيل رئاسة المجلس النيابي، ويكون لنا قائدان للسبسي أحدهما في قصر قرطاج، والثاني في قصر باردو.
وفي كل الدول الديموقراطية أو حتى التي تدّعي ذلك، فإن خسارة إستشارة إنتخابية واحدة، تؤدي بالتبعية إلى إستقالة من دون رجعة لمن يتزعم الحزب، إلّا عندنا في تونس، حيث تسجّل خسارة بعد خسارة ، والرجل جاثم على المنصب بقوة الدولة لا لإشعاعه.
***
السؤال الآن هل إستفاد رئيس الدولة من الدرس، من الهزيمة المدوية، المُتمثّلة في تحدّيه وتحدّي ابنه، ومن يسير في ركابه وركاب إبنه، ومنح الثقة لوزير داخلية جديد، رغم أنف الباجي وابنه، وإن التحقا هما والحزب في آخر لحظة بأنصار الشاهد، في حركة تنقصها الحبكة السياسية وحتى الحد الأدنى من الكرامة الذاتية.
في مثل هذه الظروف السيئة المنتظر، ولكن غير المتوقع، أن يستعيد الباجي الحزب الذي صنع إنتصاره، بتخليصه من الشوائب التي حفت به، وفي مقدمتها، شكر الابن، أي تسريحه جزاء له على خدماته، والتخلص كذلك من المرتزقة الذين أحاطوا به، واسترجاع القوى الحقيقية التي صنعت إنتصار 2014، بعد أن تم تهميشها، فلم تجد لنفسها حظاً في أحزاب عدة أنشأتها ولم يحالفها النجاح.
ولكن هل يكون الباجي من الشجاعة إزاء نفسه وإزاء ابنه، وإزاء عائلته، للإقدام على الخطوات الشجاعة التي قد تكون مؤلمة شخصياً، ولكن ضرورية لتوازنات البلاد ولمواصلة حركة صائفة 2013، التي تتجاوز الباجي وحزبه لتشمل كل القوى الحداثية، والتي كانت وراء المنعرج الإيجابي الذي عرفته تونس؟

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي، كان رئيساً لتحرير “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى