كيف إستطاعت قطر الصمود حتى الآن في وجه الحصار الخليجي – المصري

عندما أعلنت الدول الأربع مصر، السعودية، الإمارات والبحرين حصاراً على قطر توقع خبراء كثيرون أن لا تصمد الإمارة الخليجية الصغيرة فترة طوبلة قبل أن ترضخ للشروط ال13 للدول الأربع. ولكن حتى الآن ما زالت إمارة آل ثاني صامدة رغم بعض المعاناة وذلك للأسباب التي يشرحها التقرير التالي:

قادة مجلس التعاون الخليجي: هل يعود الوفاق إليهم من جديد؟

بقلم كريستيان كوتس أولريشسن*

في حزيران (يونيو) 2017، قطعت البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة العلاقات الديبلوماسية مع قطر وأقامت حظراً إقتصادياً وتجارياً أُغلِقت بموجبه الحدود البرية الوحيدة لقطر وقُيّدت بشدة حركة المرور مِن وإلى الدوحة بحراً وجواً. وهذه لم تكن المرة الأولى التي أدّى فيها الإحباط من السياسة الخارجية المتميّزة لدولة قطر إلى أزمة. في العام 2014، سحبت البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة سفراءها من الدوحة، بسبب إستيائها من سياساتها في ما بعد “الربيع العربي” مثل دعمها المتصاعد للحركات الإسلامية. ورغم أن هذا الخلاف تمت تسويته بعد تسعة أشهر، فإن القيادة القطرية يبدو أنها تعلمت درساً: إن هذا الأمر يُمكن أن يحدث مرة أخرى.
ومع ذلك، فإن الحصار فاجأ معظم المراقبين الإقليميين والدوليين. وبعد يوم واحد فقط من إعلانه، صدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب كلاً من الدوحة ووزيري الخارجية والدفاع في إدارته من خلال إصدار سلسلة من التغريدات على “تويتر” التي دعمت هذه الخطوة والتي أشارت إلى أن قطر تدعم التطرف. وقطر، مثل العديد من دول الخليج الصغيرة، لديها وضع دفاعي وأمني يعتمد على شراكتها مع الولايات المتحدة. في مواجهة ضغوط مُكثّفة من دول أكبر حجماً وأكثر تقليدية في العالم، بدا أن الأمور قد فاقت قدرة قطر.
بعد عام واحد، يبدو أن قطر تفوقت على منافسيها. لقد علّمت أزمة 2014 الدوحة على أهمية تطوير خطط طوارئ. واستجابة لأحدث لعبة قوة إقليمية وقرار ترامب غير المتوقع لدعم الحصار، سارعت قطر إلى بذل الجهود لتنويع إقتصادها وتوسيع نطاق شراكاتها الدولية وتقليل تعرضها للصدمات الخارجية. وعلى الرغم من أن الحصار ما زال قائماً، إلّا أن قطر أثبتت قدرتها على الصمود أكثر مما توقع معظم الناس.

شراكات جديدة

لعقود من الزمن، ربطت روابط إجتماعية وتجارية مترابطة بشكل كبير بين دول الخليج. وكان أحد التأثيرات المباشرة لهذه الأزمة هو تعطيل هذه الروابط الراسخة. قبل الحصار، دخل ما يصل إلى أربعة أخماس واردات الأغذية إلى قطر إما مباشرة عبر الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية أو بشكل غير مباشر عبر طرق الشحن التي تمر عبر الموانئ الإماراتية مثل جبل علي. لكن في حزيران (يونيو) 2017، أغلق السعوديون والإماراتيون موانئهم أمام الشحن البحري القطري، وحظرت الإمارات العربية المتحدة السفن القطرية من إستخدام مركز تموين الفجيرة الإقليمي والتزود بالوقود. كما أثرت هذه القيود على الناقلات التي كانت تحمل في السابق شحنات النفط الخام القطري إلى جانب سفن الكويت وعُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن من المهم الملاحظة بأن مصر لم تمنع سفن قطر من عبور قناة السويس أو أجبرت 300 ألف مصري يعيشون في قطر على المغادرة، كما فعل البحرينيون والإماراتيون والسعوديون مع مجموعاتهم الوطنية (الأصغر بكثير). وكان من شأن أيٍّ من الحالتين، لو حصلت، أن تتسبب في تعقيدات هائلة لقدرة قطر على تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق الأوروبية الرئيسية وإلحاق الضرر بعمل البيروقراطية القطرية التي توظف الكثير من المصريين.
ومع إغلاق معظم الطرق التجارية التقليدية، كان على قطر إتخاذ ترتيبات بديلة. وكانت البلاد بدأت بالفعل عملية تنويع شراكاتها الإقليمية والدولية بعد أزمة الخليج الأولى في العام 2014. واستفاد القادة القطريون من الموارد المهمة لهيئة الاستثمار القطرية والكيانات المرتبطة بها، ورفعوا إستثماراتهم عبر آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية وروسيا. إشترت قطر كيانات رئيسية في فرنسا وإلمانيا والمملكة المتحدة مثل نادي “باريس سان جيرمان” و”دويتشه بنك” وحي “كناري وارف” المالي في لندن؛ أصبحت مستثمراً أساسياً في البنك الزراعي الصيني؛ إستثمرت في مشاريع السياحة والطاقة والبنية التحتية في جنوب شرق آسيا؛ وأطلقت مشاريع مشتركة للأغذية والأمن والأعمال والاستثمار في الهند. لقد سهلت هذه الروابط عملية إعادة الهيكلة التالية لطرق التجارة والشحن القطرية. الهند، على سبيل المثال، أنشأت خدمة حاويات مباشرة لربط قطر بميناءين هنديين خلال عشرة أيام من بدء الحصار.
وقد ساعدت إحتياطات قطر من الغاز الطبيعي الهائلة ومركزها كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، في جذب مجموعة واسعة من الشركاء الخارجيين الذين لديهم مصلحة مباشرة في إستمرار أمن واستقرار البلاد. بحلول العام 2017، كانت قطر ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال إلى كل من الصين واليابان، ومورّداً رئيسياً إلى الهند، وكوريا الجنوبية، ودول آسيا. كما تشتري بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وبولندا كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال من قطر. في آذار (مارس) 2017، وافقت شركة النفط والغاز المملوكة للدولة في بولندا على مضاعفة وارداتها من الغاز من قطر لتقليل إعتمادها على روسيا. وربما لم يشعر نفوذ الطاقة القطري بأهميته في أي مكان أكثر من المملكة المتحدة. لم تقتصر حصة قطر على 93 في المئة من واردات الغاز الطبيعي المسال البريطانية بين عامي 2014 و2016 فحسب، بل أصبحت أيضاً مساهمة ومالكة الغالبية في شركة “ساوث هوك للغاز” (South Hook Gas)، التي تدير محطة الغاز الطبيعي المسال في ويلز التي تتلقى الشحنات القطرية.
جعلت هذه الصفقات والإستثمارات في مجال الطاقة من الصعب على البلدان الأربعة المناهضة لدولة قطر أن تحصل على أي دعم دولي، أو حتى مُجدٍ، لمحاولتها عزل البلاد، بصرف النظر عن الوصول المثمر في البداية إلى أعضاء الدائرة الداخلية لترامب. وقد بعث هذا برسالة مفادها أن قطر ما زالت مفتوحة للأعمال.
تكيّفت الدوحة بسرعة مع الوضع الطبيعي الجديد. نمت التجارة بين قطر وسلطنة عُمان بنسبة ١٤٤٪ في العام ٢٠١٧، حيث تم إعادة توجيه الشحن عبر الموانئ العُمانية. كما زادت التجارة مع إيران والصين وباكستان وتركيا بشكل ملحوظ في أعقاب الحصار. وفي شباط (فبراير) 2018، أعلنت قطر للبترول أنها ستوسع إنتاج الغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طن سنوياً إلى 100 مليون طن سنوياً بحلول العام 2024، مما سيولد إهتماماً واسع النطاق من أوروبا وأميركا الشمالية ويفتح إمكانية أسواق إضافية في المديين المتوسط والطويل.

السلامة أولاً

إتخذت قطر أيضاً إجراءات عملية لتعزيز أمنها من خلال شراء المزيد من المعدات العسكرية وتطوير شراكات جديدة. في العام 2014، إشترت قطر أسلحة بقيمة تقارب 24 مليار دولار من الصين. ومع تكشف الأزمة الثانية، قامت قطر بتعزيز قدراتها الدفاعية من خلال الحصول على نظام صاروخي باليستي قصير المدى من الصين، والذي عرضته علناً خلال إستعراض يوم العيد الوطني في كانون الأول (ديسمبر) 2017. لكن الأهم في المدى القصير هي علاقة قطر مع تركيا. في العام 2014، بدأ البلدان التفاوض على إتفاقية تعاون عسكري، وفي نيسان (إبريل) 2016، فتحت تركيا قاعدة عسكرية في قطر – أول قاعدة لها في الشرق الأوسط منذ العهد العثماني. بعد يومين فقط من بدء الحصار، عقد البرلمان التركي جلسة إستثنائية للتصديق على إتفاقات لتمركزالقوات التركية في قطر والسماح للجيش التركي بتدريب قوات الأمن القطرية. في غضون أسابيع، أرسلت أنقرة قوات تركية إلى الدوحة لإجراء تدريبات مشتركة، مما رفع تكلفة أي عمل عسكري مُحتمَل من طريق إرسال إشارة واضحة لأعداء قطر بأن الدوحة لن تقف وحدها ضد أي هجوم.
وخلال الأشهر الستة الأولى من الحصار، أنهى الجيش القطري أيضاً صفقات بمليارات الدولارات لشراء طائرات مقاتلة جديدة من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقد زادت هذه الاتفاقات الثلاثة بشكل كبير من القوة الجوية القطرية ومرافق الدعم والتدريب المرتبطة بها. كما كان لديها عنصر سياسي كذلك. وقد تم التوقيع على الصفقة الفرنسية خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون في كانون الأول (ديسمبر) 2017 إلى الدوحة التي أبرزت دعم فرنسا لقطر على الرغم من الحظر. وفي الوقت نفسه، ضمنت صفقة قطر مع الولايات المتحدة والبالغة قيمتها 6.7 مليارات دولار إنتاج طائرات مقاتلة تايفون (التي يتم تصنيعها في المملكة المتحدة) حتى منتصف العشرينات، وحافظت على آلاف الوظائف في شركة “بي آي إي سيستم” (BAE Systems)، وهي شركة دفاع بريطانية كبرى. وتضمنت هذه الصفقة أيضاً إنشاء سرب مشترك تمكّن، للمرة الأولى، من دمج طيارين من القوات الأميرية الجوية القطرية مع نظرائهم في سلاح الجو الملكي البريطاني للإسراع في التدريب على الطائرات المشتراة حديثاً.
لقد بعثت الصفقة مع الولايات المتحدة رسالة أكثر قوة. على الرغم من أن المفاوضات بشأن بيع 12 مليار دولار للدفاع بدأت قبل فترة طويلة من الحصار، إلّا أن الإتفاق إنتهى بعد ثمانية أيام فقط من قيام ترامب بمهاجمة قطر على تويتر. وقد أتاح ذلك فرصة مناسبة في الوقت المناسب لوزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين لإعادة التأكيد على قيمة قطر كشريك للولايات المتحدة. وأشار متحدث باسم وزارة الخارجية إلى أن الاتفاق كان “عرضاً ملموساً لدعم علاقاتنا الدفاعية”. وردّت الحكومة القطرية على تغريدات ترامب من خلال زيادة تعاونها بشكل واضح مع الحكومة الأميركية بشأن قضايا ذات إهتمام مشترك وقلق مشترك. في تموز (يوليو) 2017، أصبحت قطر أول دولة خليجية توقع مذكرة تفاهم مع أميركا حول مكافحة الإرهاب. بعد بضعة أشهر، أُقيم أول حوار قطري – أميركي لمكافحة الإرهاب في واشنطن، وفي كانون الثاني (يناير) 2018، إفتُتِح حوار إستراتيجي بين الولايات المتحدة وقطر. وعلى خلفية هذه التحركات، عكس ترامب موقفه. وفي إتصال هاتفي في كانون الثاني (يناير) 2018 مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أشاد الرئيس بقطر كشريك في الحرب ضد الإرهاب ودعا إلى حل سريع لأزمة الخليج.
وبالإضافة إلى تشكيل شراكات جديدة، عجّلت دولة قطر جهودها لتحقيق الإكتفاء الذاتي. في آذار (مارس) 2018، أنشأت وزارة الدفاع القطرية ذراعاً إستثمارية، دعيت “برزان القابضة”، لإدارة المشتريات الإستراتيجية، وإنشاء شراكات جديدة مع شركات الدفاع والأمن، ودعم البحث والتطوير. أحد الأهداف الرئيسية لشركة “برزان القابضة” هو بناء رأس المال البشري والتكنولوجي في قطر. على سبيل المثال، وقعت برزان وشركة الدفاع التركية أسيلان إتفاقية شراكة لتغطية بعض نقل التكنولوجيا وتوطين البحث والتطوير في قطر. كما أدى الحصار إلى توسيع كبير في قدرات التصنيع الغذائي والزراعي في قطر. وقد جعلت هذه التطورات البلاد آمنة أكثر على صعيد الغذاء وسمحت لها بالتغلب على إعتمادها على المملكة العربية السعودية للمنتجات الزراعية المستوردة.

الخليج المُتَغيّر

سمحت هذه التدابير لقطر بمواجهة الحظر. في الواقع، في الذكرى السنوية الأولى للأزمة، كانت قطر تعاني من عجز مالي أصغر، وزيادة جوهرية في الاحتياطات الأجنبية، وتحسّن في الميزان التجاري، وقطاع مصرفي كامل التعافي. من المؤكد أن الأزمة لم تكن خالية من التكلفة: فقد أعلنت الخطوط الجوية القطرية، على وجه الخصوص، عن خسارة كبيرة (لكن لم يتم الكشف عنها) للفترة 2017–2018 حيث أدى إغلاق معظم المجال الجوي الإقليمي حول قطر إلى إرتفاع كبير في تكاليف التشغيل. بشكل عام، مع ذلك، فقد ظهرت البلاد سالمة نسبياً. إن عزلة قطر تُظهر كيف يُمكن لدولة صغيرة تحت ضغط شديد أن تستفيد من مواردها لزيادة المرونة الوطنية. وبالطبع فإن جيوب واحتياطات النفط والغاز الطبيعي في قطر تفوق الموارد المتاحة لمعظم الدول الصغيرة. ومع ذلك، يمكن لبلدان مثل النروج وسنغافورة وتايوان أن تتعلم من جهود قطر لتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية. (لقد أثارت أزمة الخليج بالفعل جدلاً قوياً حول هذا الموضوع في سنغافورة).
أعادت الأزمة أيضاً صياغة سياسات الخليج العربي بطرق لها آثار بعيدة المدى. على مدار 36 عاماً، كان مجلس التعاون الخليجي المؤسسة الإقليمية الأكثر ديمومة في الشرق الأوسط. اليوم تضرر، وربما لا يمكن إصلاحه، وحل محله محور جديد يتحوّل من الرياض إلى أبو ظبي. وفي الوقت نفسه، تعرضت سمعة دبي لضربة كمكان للقيام بأعمال تجارية مستقلة عن الإعتبارات السياسية أو الجيوسياسية. وقبل كل شيء، عمّقت محاولة عزل قطر الانقسامات بين دول الخليج فيما كان ترامب يسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني ويحثّ شركاء واشنطن في المنطقة على تشكيل جبهة موحدة ضد طهران. ومع تخندق جميع الأطراف في مواقعها، ومن غير المرجح أن تؤدي جهود الوساطة الكويتية إلى حل الأزمة، فإن المواجهة بشأن قطر قد أصبحت لحظة حاسمة تُنبىء بتجزئة الإجماع الإقليمي وتدخّل عناصر جديدة في الهياكل السياسية والإقتصادية والأمنية في الخليج.

• كريستيان كوتس أولريشسن زميل متخصص بشؤون الشرق الأوسط في معهد بيكر للسياسة العامة في جامعة رايس الأميركية.
• كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى