الإِبداع هو الــ”كيف”، لا الــ”ماذا”

بقلم هنري زغيب*

بين مبدأِ لاﭬــوازيـيـه “ليس مِن مفقود ولا مولود. كلُّ شيْءٍ إِلى تَـحَـوُّل”، والمبدأِ العامّ السائد “لا جديدَ تحت الشمس.كل ُّجديدٍ هو تعبيرٌ قديمٌ بصيغةٍ جديدة”: أَين هو الإِبداع؟ إِن كان المضمونُ سائدًا، هل يكفي الشكل الجديد ليجعل المضمونَ جديدًا؟
في بالي، وأَنا أَتساءَل، نموذج تعابير مختلفة لـمَوضوع واحد: “النِعَمُ الثلاث”. رمزُها في الميثولوجيا اليونانية: “ثلاثُ نساء عاريات يُـمثِّــلْنَ آلهاتِ البهجة والخصُوبة والجمال”، نجد له “تعابير مـختلفة” للنساء ذاتهنّ، وَضَعها في الرسم: بوتيتشلّي، رافايــيل، روبنـز، رينو وكثيرون عبر العصور، وفي النحت: أُوﭘـسْتال، كانوﭬـا، ﭘـراديـيه، سان فال وكثيرون غيرهم، وفي الموسيقى: تارنوﭘــولْسْكي وسواه، وفي الهندسة المعمارية: ثلاثةُ أَبنية تاريخية في ليـﭭـربول إِنكلترا، ونوافيرُ في الساحات العامة: لياج، مونـﭙوليـيه، بوردو، سيليزيا ﭘــولونيا، وسواها…
هكذا إِذًا: النساءُ الثلاثُ هُنّ هُنّ. فما الجديد بين تعبيرٍ وآخَر؟ وهل من “إِبداع” في التعبير طـالـما هُـنَّ هُـنّ؟
الأَصل هنا هو الـ”كيف” لا الـ”ماذا”. هو القالَب لا القلْب. جوهر الفن – أَيًّا يكن التعبير: بالكلمة، بالريشة، بالإِزميل، بالنوتة … – أَن يضيف جديدًا على التعبير عن الفكرة القديمة. الفنان حصيلةُ موروثٍ فنـيٍّ مهما بدا ظاهرُ عمله “اختراعًا”. الفن ليس إختراعًا من عدَم. إِنه خَلْقٌ عصري من خَلْقٍ سابق، في مسيرة إِرثٍ إِنساني عبر العصور، بِـما يحمل كلُّ عصرٍ من تأْثير وتَــأَثُّــر. هذا هو “التراشُح” الخلّاق لدى مَن يتأَثَّــر بالسَلَف ويُؤَثِّــر في الخلَف. وهذا ما يُـميِّــز الـمُجَــدِّد عن الـمُـقَلِّد.
أَين إِذًا يــبدأُ الإِبداع وأَين يتوقَّف؟ ما المسافةُ بين مَن ومَن؟ وما المساحة المشتركة بين قَبْلٍ وبعد؟ وكيف نُضيف جديدًا على سائدٍ عالَـجَـه كبارٌ مكرَّسون في التاريـخ؟
هي العلاقة الجدلية الدائِمة القائِمة بين تأْثيرات البيئة الضيّقة والـمجتمع الأَوسع والعولَـمة الـمُطلقة، بـما تحمل هذه التأْثيرات من حصيلةٍ تُراكـِمُها حضاراتٌ متعاقبةٌ على أَجيالٍ متعاقبة في أَساليبَ متعاقبة. الأَفكار موجودة من التراث الإِنساني، عبر اللغات كلِّها، وفي الأَوطان جميعها. والتراشُح موجودٌ، فطرةً أَو ثقافةً، طبيعةً أَو إكتسابًا. ولا بدَّ من “حمض نووي” يُعيد كلّ أَثَـرٍ إِلى مصدره وأَعراقه وسُلالاته.
هذه الموروثات تتجلَّى أَوضح، كلّما انفتحَت على بعضِها بعضًا مجتمعاتٌ ولغاتٌ وآثارٌ إِنسانية، ويضيق هامشُ الجديد فيصعب حفْره في الزمن على أَنه “اختراع”. الفكر الإِنساني تعاقُبُ أَجيالٍ على العطاء، لا يُـميِّز أَحدَها عن الآخر إِلا تعبيرُ المعالجة بأُسلوبٍ آخَر ومنظارٍ مُـختلِف ورؤْيةٍ مغايِــرة وقدرةِ إِيصال.
في تاريخ العصور والمجتمعات أَعمالٌ فنيةٌ خالدة، لها أَشباهٌ في عصورٍ أُخرى ومجتمعاتٍ أُخرى. الجوهر يـبقى أَن ينتقلَ أَثَـــرٌ من بيئته إِلى أُخرى، حاملًا معه “جيناته” يلقِّح بها تلك الأُخرى فتَظهَر فَرادتُه.
وعندئذٍ يكونُ الإِبداع.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. تستطيع التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى