الفلسطينيون بين مطرقة نتنياهو وعصا ترامب وسندان محمد بن سلمان

يبدو أن الأميركيين وبعض الحكومات العربية قد تخلوا عن القضية الفلسطينية، ويعتقدون أنه بوسعهم إجبار محمود عباس على الخضوع لتمرير “صفقة القرن”.

الرئيس محمود عباس: الضغط يتصاعد ضده داخلياً للإستقالة وخارجياً للخضوع

بقلم داليا هاتوقا*

إلتقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أخيراً مع مستشارَي الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول السلام في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات وجاريد كوشنر، لمناقشة المشاريع الإنسانية في قطاع غزة. ثم إنتقل الثنائي إلى قطر لإجراء مزيد من المحادثات حول كيفية تخفيف الأوضاع في القطاع كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز خطة ترامب للسلام.
لا شك أن التركيز على غزة يُثير غضب وحفيظة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. حتى قبل أن تبدأ الرحلة، فقد وصفها كبار مساعدي عباس بأن “لا معنى لها” و”مَضَيعة للوقت”، لكن زيارة غرينبلات وكوشنر السريعة إلى المملكة العربية السعودية وإسرائيل والأردن وقطر ومصر حدثت – مع أو من دون الفلسطينيين.
إن القيادة الفلسطينية في رام الله تُقاطع المسؤولين الأميركيين منذ كانون الأول (ديسمبر) الفائت، عندما أعلن ترامب أنه سينقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، التي إعترف بها بعدها اكعاصمة لإسرائيل.
لأشهر عدة، نظرت السلطة الفلسطينية إلى العلاقات الوثيقة بين إدارة ترامب وبعض الدول الخليجية بازدراء. في إجتماع مُغلَق عقده في نيويورك في آذار (مارس) الفائت مع زعماء يهود، أفيد أن محمد بن سلمان إنتقد الفلسطينيين بسبب إضاعة وعدم إغتنام فرص السلام، وقلّل من أهمية قضيتهم، وقال أن عليهم قبول أي صفقة معروضة عليهم.
وبحسب الصحافي الإسرائيلي باراك رابيد، نقلاً عن مصدَرٍ حضر الإجتماع، فقد فاجأت تصريحات بن سلمان الحاضرين إلى درجة أن بعضهم “حرفياً سقط من مقاعده” – وهي أبعد ما تكون عن التهديد الذي أطلقه الملك عبد الله بن عبد العزيز، عندما كان ولياً للعهد في 2001، بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة ما لم تتخذ واشنطن إجراءات لوقف الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين خلال الإنتفاضة الثانية.
الواقع أن العلاقات السعودية الثنائية الدافئة بشكل متزايد مع إسرائيل لم تمر من دون ملاحظة من قبل السلطة الفلسطينية، التي أشارت أيضاً إلى إصرار ترامب – منذ بداية رئاسته – على أن التوصل إلى “الصفقة النهائية” بين إسرائيل والفلسطينيين تتطلب مشاركة المنطقة الأوسع نطاقاً.
ومن جهتها فقد أُصيبت السلطة الفلسطينية بصدمة عندما رأت الرياض تمنح إذناً لشركة طيران الهند ” Air India ” بالتحليق إلى تل أبيب عبر المجال الجوي السعودي، وبعد ذلك إعترف محمد بن سلمان، في مقابلة مع مجلة “أطلنتيك” الأميركية، بحق إسرائيل في “أرضها”. وبينما قاطعت السلطة الفلسطينية حضور إجتماع البيت الأبيض حول الأزمة الإنسانية في غزة في آذار (مارس) الفائت، فقد حضره العديد من الدول العربية – بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية – كما إسرائيل.
لم يعد الفلسطينيون هم النقطة المركزية في الأجندة الإقليمية، وأصبح قادة السلطة الفلسطينية يشعرون بعدم الارتياح على نحو متزايد بعدما حوّل بعض الزعماء العرب إنتباهه إلى إيران، مُركّزاً على تورط طهران في اليمن والعراق وسوريا.
غالباً ما يُعلن الزعماء العرب عن دعم القضية الفلسطينية، لكن الفلسطينيين يعرفون أن هذه التصريحات غالباً ما تكون نوعاً من النفاق. إن الوعود الكثيرة من المساعدات التي تعهّد بها المانحون العرب لإعادة إعمار غزة بعد العام 2014 لم تتحقق، كما أن تدفق المساعدات الحكومية إلى المنطقة قد جفّ. وبدلاً من ذلك، إنحرف التركيز الديبلوماسي للحكومات العربية في المقام الأول إلى المشاكل الداخلية والإستقرار المحلي، والأعداء الإقليميين مثل إيران، والنزاعات بين الدول العربية، ومحاربة التطرف الإسلامي.
“ليس لدى القادة العرب الآن سوى أولوياتهم الخاصة التي تسبق في الأهمية قضية فلسطين، ولكن لديهم كل الحوافز” لإيقاف الجمهور من الإلتفاف حول القضية الفلسطينية “لأنهم يرون ذلك تهديداً”، يقول شبلي تلحمي، الأستاذ الجامعي في جامعة ميريلاند وزميل كبير غير مقيم في معهد بروكينغز. وفي حين إستطاعت هذه الحكومات ذات يوم أن “تستخدم الهَوَس العام مع فلسطين كمصدر للإلهاء، فإن الناس يستخدمونها الآن كإسفين لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحكومة مباشرة” بشأن المظالم المحلية مثل البطالة والفقر، أضاف تلحمي.
على الرغم من أن محمد بن سلمان إدّعى للفلسطينيين علناً بأن توثيق العلاقات بين الرياض ودول الخليج الأخرى وإسرائيل لا يُمكن أن يحدث إلّا فقط مع تقدمٍ كبير في عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، فقد أظهر إستعداداً لدعم مختلف النزاعات في المنطقة، وإستخدم خوف الرياض من النفوذ الإيراني لتحويل التركيز بعيداً من قضيتهم.
يدرك الفلسطينيون الآن أنهم لم يعودوا قادرين على الإعتماد على حلفائهم التقليديين في العالم العربي.
كما أن عدم التماثل في القوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى جانب الإنقسامات الداخلية للفلسطينيين والإعتماد التام على المعونات الخارجية، لم يترك لهم نفوذاً يُذكر.
إن أحد خياراتهم الأخيرة هو اللجوء إلى المجتمع الدولي، كما فعلوا في السنوات الأخيرة، من خلال السعي إلى الإنضمام إلى المنظمات والمعاهدات والإتفاقات الدولية كجزء من إستراتيجيتهم لتحقيق إقامة دولتهم من خلال المنتديات العالمية أو تقديم شكاوى جنائية دولية على أمل أن يشكّل ذلك عامل ضغط على إسرائيل ودعوة إلى محاسبتها على أفعالها.
لقد أثبت هذا التكتيك نجاحاً في بعض الأحيان. لكن المناخ الدولي الحالي يختلف إختلافاً كبيراً عن المناخ الذي كان سائداً في عهد الرئيس باراك أوباما، وقد أكّدت إدارة ترامب بشكل واضح أنها ستكون مُعارِضة قوية للفلسطينيين في الأمم المتحدة.
وقال يوسف منيَّر، المدير التنفيذي للحملة الأميركية لحقوق الفلسطينيين: “إن فرص المشاركة الثنائية للحصول على نوع من الإعتراف بالدولة الفلسطينية، التي كانت بالذهاب إلى إستراتيجية ديبلوماسية دولية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لا يبدو أنها تتمتع بقدر كبير من القوة اليوم”.
إن الافتقار إلى المساعدة الخارجية يوفّر فرصة للنظر إلى الداخل. يتوجّب على الفلسطينيين أن يتعاملوا مع أزمة شرعية داخلية: لا توجد لدى السلطة الفلسطينية خطة خلافة للحديث عنها على الرغم من هَرَم القيادة التي يرأسها عباس البالغ من العمر 82 عاماً، والذي كان رئيساً منذ العام 2005.
التقدم الذي أُحرِز في المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية بين السلطة وحركة “حماس” في العام الماضي قد تلاشى بعدما إتهمت السلطة الفلسطينية الحركة بمحاولة إغتيال رئيس وزرائها، رامي حمد الله، ورئيس المخابرات ماجد فرج في غزة في آذار (مارس) الماضي، والقمع الأخير ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين كانوا يحتجّون على الإجراءات العقابية للسلطة الفلسطينية في غزة التي تديرها “حماس”.
من دون وجود حكومة موحَّدة أو عملية خلافة واضحة وقوية، قد تجد قيادة السلطة الفلسطينية نفسها مضطرة إلى إختيار واحد من خيارين سيئين: الأول، تستطيع المشاركة في عملية سلام مُزوَّرة بشروط أقل مواتاة مما كانت عليه في الماضي – أو ثانياً، صياغة مسارها الخاص من دون دعم المانحين الغربيين الذي تعتمد عليه الإدارة للعمل. وهذا يعني أن سُبُل معيشة 145 ألف موظف مدني في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة ستختفي.
لكن بالنسبة إلى الفلسطينيين العاديين، فقد أتاح لهم الوضع الفرصة لمزيد من الانخراط في المقاومة السلمية، سواء من خلال دعم “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” أو من خلال المشاركة في تكتيكات لاعنفية أخرى مثل “مسيرة العودة الكبرى” التي تمثلت بإحتجاجات إستمرت لمدة شهر على طول السياج الذي يفصل إسرائيل عن غزة، والتي قوبلت بالأسلحة المميتة من الجنود الإسرائيليين.
إن هذا النشاط على مستوى القاعدة الشعبية لديه الإمكانية – في ما بعد – لإعطاء قيادة تكون أكثر إنعكاساً لمؤيديها. (وفقاً لاستطلاع حديث، فإن أكثر من ثلثي الفلسطينيين يريدون من عباس أن يستقيل). على الرغم من أن “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات منها وفرض عقوبات عليها” لم تحقق الكثير من التأثير في إسرائيل إقتصادياً، إلّا أن إلغاء الزيارات المتتالية إلى إسرائيل من قبل ممثلين ومغنيين عالميين قد ألحق ضرراً بسمعة البلاد أكثر من إنضمام السلطة الفلسطينية إلى جمعيات الاتحاد الأوروبي للكرونز والقولون التقرّحي.
إن إحباط الفلسطينيين من فشل السلطة الفلسطينية في تقريبهم من الاستقلال ومن التحوّل في أولويات الدول العربية قد جعل ملامح الإتفاق الأميركي- السعودي – الإسرائيلي أكثر وضوحاً: دولة منزوعة السلاح من دون القدس كعاصمة، وأراضٍ ذات سيادة وتواصل جغرافي محدودَين، وحلّ غير كافٍ وغير ملائم لقضية اللاجئين.
وفقاً لتقرير في مجلة “نيويوركر”، فقد حدّد كوشنر ومحمد بن سلمان تحالفاً إستراتيجياً في الشرق الأوسط سيركّز على إحباط إيران وحثّ الفلسطينيين على الموافقة على صفقة سلام. وبحسب ما ورد في المقال فإن ولي العهد السعودي قال في وصف الإستراتيجية لإنجاز الصفقة: “سأقوم بإقناع الفلسطينيين، وسيقوم [ترامب] بإقناع الإسرائيليين”.
جاءت تصريحات ولي العهد السعودي من دون شك كموسيقى عذبة على مسامع رئيس الوزراء الإسرائيلي. يعتقد بنيامين نتنياهو أن هذا الواقع الإقليمي الجديد يجعل التوصل إلى حلّ مع الفلسطينيين أقل إلحاحاً – أو حتى غير ضروري تماماً.
وهذا بعيد كل البعد عن العام 2002، عندما قدمت مبادرة السلام العربية، التي دفعتها ودعمتها المملكة العربية السعودية، فرصةً لإسرائيل للإندماج في المنطقة في مقابل الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية التي لا تزال تحتلها حتى يومنا هذا. لقد رفضت إسرائيل الصفقة، وبدلاً من ذلك قامت بتكديس الضفة الغربية بمزيد من المستوطنات فيما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تنخرط في دورة لا نهاية لها من عملية السلام، وتغض الطرف عن الإسرائيليين الذين كانوا يُقيمون حقائق جديدة على الأرض.
الآن، مهّدت التغييرات الإقليمية الطريق أمام فرصة أخرى لإسرائيل لتطبيع العلاقات رسمياً مع جيرانها – لكن هذه المرة من دون إتفاق سلام.
إنتقلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من العلاقة السرية مع الإسرائيليين إلى الإعلان صراحة عن إستعدادهما ورغبتهما في بناء علاقة تتعدّى روابطهم السرية الحالية.
اليوم، إن معظم أعداء إسرائيل التقليديين قد أُضعِفوا أو تمّ القضاء عليهم: لقد تمّ إحتواء القيادة الفلسطينية من خلال سخاء الولايات المتحدة؛ إتفاقات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن صمدت حتى خلال أكثر الأزمات الديبلوماسية شراسة؛ والعراق وسوريا يعيشان حالة من الإضطرابات والإنقسامات من خلال حملة للإطاحة ب”الدولة الإسلامية”.
لكن ليس الجميع مُقتنعاً بأن التحالف بحكم الواقع مع بعض الدول العربية ضد إيران سيؤدي إلى سلام إقليمي من دون تحقيق تقدّم حقيقي في القضية الفلسطينية. “إن أولئك الذين لا يرون الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من حيث الفوز للجميع لكن من حيث المجموع صفر، يعتقدون أنه يمكنهم استخدام علاقات أفضل وتحالف مصالح بين إسرائيل والعالم العربي كطريقة لتجاوز القضية الفلسطينية”. قال نداف تامير، وهو مستشار كبير للشؤون الحكومية والدولية في مركز بيريز للسلام، في مؤتمر “جي ستريت” السنوي في نيسان (إبريل) الفائت.
غير أن نتنياهو وإدارة ترامب يتفقان على أنه يمكن التوصل إلى إتفاق من خلال علاقات إسرائيل الدافئة مع الدول العربية والتي بدورها ستضغط على الفلسطينيين للالتزام. وفي ما يتعلق بإدارة ترامب، “هذه صفقة – عليك فقط أن تجد سعر البيع”، قال ويليام كوانت، عضو سابق في مجلس الأمن القومي في إدارتي نيكسون وكارتر، في مؤتمر عُقد في واشنطن في آذار (مارس) الفائت. “وإذا كان السعوديون مستعدين لتمويلها، فكيف يُمكن للفلسطينيين … أن يقولوا لا للسعوديين؟” أضاف كوانت، الذي كان جزءاً من فريق التفاوض الأميركي في كامب ديفيد الذي أدى إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979. “نحن ملتزمون بسياسة أميركية لا تقود إلى أي مكان، وعندما تفشل، لا توجد خطة بديلة إحتياطية”، على حد تعبيره.
لقد تعلّم الفلسطينيون من ماضيهم بأن دعم الحكومات العربية مُتقَلبٌ كما هو الحال مع تضاريس المنطقة السياسية المتغيّرة. مرة أخرى، يجد الزعماء الفلسطينيون أنفسهم معزولين ومُنقسمين بينما تقوم الحكومات العربية والغربية بتصعيد الضغوط عليهم. إن خياراتهم اليوم باتت محدودة: يُمكنهم إنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل؛ تفكيك السلطة الفلسطينية وإجبار إسرائيل على تحمّل مسؤولية وتبعات إحتلالها العسكري؛ أو إحتضان ودعم العصيان المدني وتكتيكات “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” على المستوى الوطني.
ويمكنهم أيضاً أن يرضخوا لمحمد بن سلمان وخطة المتآمرين معه في المنطقة بينما يركّزون على عزل حماس ومعاقبة الفلسطينيين في غزة بسبب سوء حظهم لأنهم وُلِدوا هناك، ولكن ليس من دون مواجهة غضب شعبهم.

• داليا هاتوقا كاتبة صحافية، ومذيعة إذاعية وتلفزيونية مقرها في الولايات المتحدة والضفة الغربية. تستطيع متابعتها على تويتر: @daliahatuqa.
• كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى