خيارات إيران في جنوب سوريا ثلاثةٌ أحلاها مرّ

يبدو أن اقتراح روسيا الوسَطي الخاص بجنوب سوريا يفتقد إلى موافقة الإيرانيين – وعدم إدراك بأن حسابات طهران هي الأساس في تقرير ما إذا كان الصراع الإسرائيلي-الإيراني سيخرج عن نطاق السيطرة.

درعا: هل يدخلها الجيش السوري مع الإيرانيين؟

بقلم بلال صعب*

من الإنتفاضات العربية حتى ولادة “الدولة الإسلامية”، ومن إندلاع أربع حروب أهلية إلى أزمة الخليج، لم يكن الشرق الأوسط أكثر إضطراباً في تاريخه الحديث. إن نجاة المنطقة من حرب تقليدية واسعة النطاق خلال هذه الفترة المُتقلِّبة التي غابت فيها الديبلوماسية الأميركية عملياً لم تكن أقل من معجزة.
لكن هذه السلسلة التي حالفها الحظ السعيد قد لا تدوم طويلاً. مع هزيمة “الدولة الإسلامية” عسكرياً منذ العام الفائت، تحوّلت الحرب الأهلية السورية إلى ساحة معركة للقوى الإقليمية، الأمر الذي يزيد من خطر نشوب حرب بين هذه الدول. ويبدو جنوب سوريا أنه أكثر الأماكن قابلية للإشتعال، حيث تعمل العدوتان اللدودتان إسرائيل وإيران على مسافة قريبة في ذلك الجزء من البلاد، وتواجهان أزمة عسكرية يُمكن أن تتصاعد بسهولة.
من جهتها تريد إسرائيل من إيران الإبتعاد من الزاوية الشمالية الشرقية وفي نهاية المطاف من كل سوريا. من ناحية أخرى، لا تهتم إيران بالمغادرة، بعد أن أنفقت الكثير من الدماء والثروة من أجل إنقاذ نظام بشار الأسد وملاحقة وتنفيذ مجموعة من المصالح الإستراتيجية في سوريا وفي جميع أنحاء المنطقة.
لإجبار طهران على التعاون، لجأت إسرائيل إلى القوة العسكرية، وقصفت أهدافاً إيرانية و”حزب الله” في سوريا بشكل متكرر. لكن إيران لم تتزحزح لاعِقةً جراحها بعد كل ضربة، حتى أنها أخيراً ردّت بإطلاق صواريخها على المواقع الإسرائيلية في هضبة الجولان، التي ردت عليها إسرائيل بدورها بشن أكبر هجوم على سوريا منذ حرب “يوم الغفران” في العام 1973.
أخيراً تقدمت روسيا، التي تُعتبر أقوى لاعب في سوريا، بتسوية ديبلوماسية لمنع الأمور من الخروج عن السيطرة تقوم على أن تسمح إسرائيل لجيش الأسد بالسيطرة على الجنوب من دون عوائق، في مقابل قيام إيران بإخراج قواتها من المنطقة. حتى أن موسكو إقترحت أنه باستثناء قواتها المسلّحة، فإن جميع القوات الأجنبية بما فيها إيران و”حزب الله” وتركيا والولايات المتحدة عليها أن تنسحب من سوريا في وقت لاحق.
إن مبادرة روسيا لها فوائد، لأنها يمكنها أن تُهدّىء مؤقتاً الديناميكية الأكثر تفجّراً في الصراع السوري – بين إيران وإسرائيل. لكن يبدو أنها تفتقد أحد المكونات الأساسية: موافقة وإقناع إيران.
ليس من الواضح أبداً بأن موسكو تشاورت مع طهران قبل التوصل إلى تفاهم مع إسرائيل. لكن حتى لو إفترضنا أنها فعلت ذلك، فمن الصعب التخيّل أو التصوّر بأن ردّ طهران كان إيجابياً. تعرف إسرائيل أن روسيا لا تستطيع فرض تفضيلاتها على إيران، التي تنتشر وحداتها ووكلاؤها العسكريون على نطاق واسع، وبإعداد كبيرة، حيث تشكل أقوى القوات على الأرض في سوريا. وحتى إذا تمكّنت روسيا من إقناع إيران بسحب القوات التي هي تحت سيطرتها إلى مسافة تتراوح بين 60 و70 كيلومتراً إلى الشرق من خط وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، فإن الأخيرة ستبقى لديها شكوك حول قدرة روسيا على فرض الإمتثال في حال وقوع إنتهاك إيراني أو غيّرت موقفها. في نهاية المطاف، فإن قرار طهران هو الأكثر أهمية بالنسبة إلى وساطة روسيا.
الواقع أن لدى إيران ثلاثة خيارات رئيسية، لكلٍّ منها إيجابياته وسلبياته: الأول، تجاهل إقتراح روسيا والحفاظ على الوضع الراهن؛ الثاني، سحب جميع القوات التي هي تحت قيادتها من جنوب سوريا، ولكن تعزيز وجودها في مكان آخر؛ والثالث، تفكيك بنيتها التحتية العسكرية الخاصة في سوريا، ولكن نسخ نموذج “حزب الله” اللبناني، كما فعلت في العراق، من خلال العمل بواسطة وكلاء سوريين.
الخيار الأول يُحرّر إيران من أي إلتزامات، لكنه يُخاطر بتنفير وإغضاب روسيا وإثارة صدام كبير مع إسرائيل، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدخل عسكري من واشنطن، التي تبحث في ظل الرئيس دونالد ترامب عن أي عذر لمعاقبة إيران. في ظل هذه الظروف، يمكن لإيران أن تحاول تجنّب الحرب من خلال إستيعاب أي هجمات إسرائيلية أخرى ضد قواتها في سوريا، وتأمل في أن تستطيع القوات المسلحة التابعة ل”حزب الله” و”حماس” في لبنان وغزة، على التوالي، منع التصعيد الإسرائيلي. لكن الردع يُمكن أن يفشل، وإذا بدأت إسرائيل زيادة وتيرة ونطاق وضراوة ضرباتها، فمن غير المُحتمل أن ترى قيادة الحرس الثوري الإيراني إسرائيل تسحق كل أصولها في سوريا ولا تفعل شيئاً حيالها.
الخيار الثاني يُمكنه أن يُجنّب غضب إسرائيل في الوقت الحالي، لكنه سيُضعف يد المساومة الإيرانية وقد لا يحلّ المشكلة على أي حال من وجهة نظر إسرائيل. بعد كل شيء، أعلنت إسرائيل بأنها لن تتسامح مع أي وجود عسكري إيراني في سوريا، وهو ما قد يعني أن غاراتها لن تتوقف إلى أن تسحب إيران قواتها ووكلاءها من سوريا. ولكن، لماذا التنازل إلى عدو لن يرضى حتى يتم تحقيق وتنفيذ جميع أهدافه، ربما تتساءل طهران. إذا كانت أهداف إسرائيل متطرفة وغير قابلة للتفاوض فقد تحسب طهران عندها أنه سيكون من الأفضل لها المواجهة والصمود وإجبار إسرائيل على التوصل إلى نوع من التسوية.
الخيار الثالث من شأنه أن يزيل فعلياً خطر الحرب مع إسرائيل، لأنه سيُلبّي جميع مطالبها، لكنه سيُنهي أيضاً كل آمال إيران في بناء قوتها الصلبة في سوريا وجني كل المنافع المُنتَظرة، بما في ذلك الردع الاستراتيجي الإضافي. لا تزال إيران تسعى إلى تطوير قوتها الناعمة في سوريا كوسيلة للحفاظ على نفوذها، ولكن من دون وجود عسكري على الأرض، سيكون هذا الأمر أكثر صعوبة.
مع حرمان إيران من النفوذ العسكري في سوريا، فإن الأسد، باعتباره ديكتاتور كما هو، سيُعرقل جهود طهران بسهولة أكبر ويمنعها من تأسيس وكلاء يعملون خارج نطاق وفضاء الدولة السورية، مثل “حزب الله” في لبنان. كذلك، فإن إقامة دائرة شيعية في سوريا ذات الغالبية السُنّية تحت حكم علوي (على إفتراض بقاء الأسد في السلطة) من دون وجود عملاء إيرانيين وتمويل رجال الدين، والتدريب، والتسليح، والتبشير، سيكون شبه مستحيل. أخيراً، من دون قوة عسكرية في سوريا، ستكون إيران أقل قدرة على الدخول في صفقات إقتصادية مع النظام السوري من شأنها أن تساعدها على تمويل مثل هذا المشروع الطائفي الطموح في سوريا.
نحن لا نعرف الخيار الذي ستختاره طهران لأننا لا نملك أدنى فكرة عن القيمة الإستراتيجية التي تضعها إيران على وجودها العسكري في جنوب سوريا. إن طهران ليست شيئاً إن لم تكن براغماتية، لكن في بعض الأحيان تتفوّق الإيديولوجية على العقلانية في السياسة الخارجية الإيرانية، كما تشهد على ذلك مختلف الأمثلة على السلوك الإيراني في الحرب الإيرانية – العراقية. ولعلّ الصراع مع إسرائيل سيتصدّر جميع الإعتبارات الأخرى.
سيعتمد قرار إيران أيضاً على وجود (أو عدم وجود) حوافز إيجابية. إذا لم يُعرَض على إيران أي شيء مقابل تعاونها، فمن المتوقع منطقياً، أن تتمسك بموقفها المُتصلّب. من ناحية أخرى، إذا كان هناك مجالٌ للتفاوض، ربما حول مصير القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، فقد تكون إيران أكثر قابلية لتقديم تنازلات.
يبدو أن إسرائيل قد أغلقت الباب أمام المساومات بسبب خطوطها الحمراء في سوريا، وكلها تمنع إيران و”حزب الله” من أي نوع من الوجود العسكري. للتأكيد، إن هذا الطلب الإسرائيلي شرعي، إذ أن ليس لدى إيران الحق بنشر قوات وصواريخ بعيدة المدى خارج أراضيها وبالتحديد قرب الحدود الشمالية الشرقية لإسرائيل، ولكن هذه هي الوقائع. إن رفض إسرائيل الإلتزام بأهداف أكثر واقعية في سوريا قد قلّل من فرص التوصّل إلى تسوية سلمية تفاوضية.
في غضون أيام قليلة، سيأمر الأسد فرقتيه المدرعتين الرابعة والخامسة لاستعادة مدينة درعا وضواحيها، إلى جانب المنطقة المتاخمة لإسرائيل. إذا قررت إيران معارضة الرغبات الإسرائيلية والروسية ودمجت رجالها في الجيش السوري، فقد يعني ذلك أن طهران قررت رفض عرض روسيا. إذا بقيت بعيدة، فهذه علامة، وإن لم تكن حاسمة، على أنها مفتوحة للتفاوض على حل. ولكن حتى في ذلك الوقت، سيظل الشيطان في التفاصيل، وما زال يتعيّن على روسيا أن تُظهر لإسرائيل والولايات المتحدة والأردن على أنها ليست فقط راغبة ولكن أيضاً قادرة على تحويل مبادرتها الديبلوماسية إلى واقع وحقيقة.

• بلال صعب هو زميل كبير ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
• كُتب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”. وفد نُشر هذا المقال أولاً في مجلة “أميركان إنترست”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى