حملة أميركية عالمية كبرى لمكافحة غسيل الأموال الآتية من إيران وروسيا والصين

من المعروف أن الولايات المتحدة منذ فترة طويلة تقوم بحملة لمكافحة غسيل الأموال، وخصوصاً بعد نشر “وثائق بنما” التي كشفت الكثير عن كيفية تهريب الأموال من قبل مسؤولين ومتمولين إلى ما يدعى بلدان جنّة الضرائب. ولكن يبدو أن إدارة دونالد ترامب عازمة أكثر من أي إدارة أميركية سابقة على تنفيذ حملة واسعة للقضاء ومكافحة غسيل الأموال وخصوصاً تلك الآتية من روسيا، إيران والصين.

مارشال بيلينغسلي: قائد الحملة الأميركية العالمية لمكافحة غسيل الأموال

لندن – باسم رحال

بدأت وزارة الخزانة الأميركية حملة واسعة النطاق لمكافحة غسيل الأموال في جميع أنحاء العالم، حيث وضعت تحت المجهر دولاً عدة بينها قبرص ولبنان وسنغافورة ودول الخليج بما فيها دبي في محاولة لوقف تدفق مليارات الدولارات التي تُغسَل عبر النظام المالي كل يوم من روسيا وإيران والصين.
على الرغم من أن التخطيط للحملة، برئاسة مارشال بيلينغسلي، مساعد وزير الخزانة لمكافحة تمويل الإرهابيين والجريمة المالية، بدأ خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فإن إدارة دونالد ترامب تسعى بقوة إلى وقف تدفق الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة من الدول الثلاث إلى قطاع العقارات في المملكة المتحدة وفرنسا والبنوك الإلمانية الصغيرة ودول الخليج.
الواقع إن حجم الحزم الجديد الذي يمكن أن تتبعه وتنفذه المبادرة الأميركية لم يُعرَف بعد وغير مؤكد تماماً، حيث قال متحدث باسم وزارة الخزانة أن الإدارة فقط “تقوم بمبادرات ضد غسيل الأموال في دول عدة مختلفة كجزء من عملية مستمرة”.
ومع ذلك، فقد طُلب من المصارف من قبرص إلى سنغافورة والثغرات الطويلة الأمد التي يتدفق إليها النقد الساخن في منطقة البحر الكاريبي أن تقوم بتنظيف عملها أو تفقد إمكانية الوصول إلى نظام التحويلات العالمي في بلجيكا – نظام “سويفت” (SWIFT)، والذي من خلاله تقريباً تمر جميع المعاملات المالية في العالم. مئات المليارات من الدولارات تتحرك في اليوم عبر هذا النظام، مما يمكّن المؤسسات المالية في العالم من إرسال وتلقي معلومات آمنة عن المعاملات المالية. لقد أصبح نظام “سويفت” مهيمناً على حركة المال في العالم.
وتشير المصادر إلى أن عدوانية الولايات المتحدة لعبت دوراً في طلب الحكومة البريطانية أخيراً، والذي نتج أيضاً من تسميم الجاسوس الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال وإبنته يوليا، من الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش، مالك نادي “تشيلسي” لكرة القدم، شرح مصدر ثروته الضخمة قبل منحه تجديد تأشيرة إقامته في المملكة المتحدة. لقد أطلقت الحكومة البريطانية حملة قمع إضافية على المستثمرين الأثرياء في المملكة المتحدة. أما الوجهات البحرية للصناديق غير المشروعة في جزر كايمان، وغيرنسي، وجيرزي، وجبل طارق، وناسو فهي تحت المجهر أيضاً.
إن حجم الأموال التي تتدفق وتُهَرَّب من البلدان النامية مُذهل. وقد قدّرت منظمة النزاهة المالية العالمية، التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، في تقرير في العام 2017، أن تدفقات العملة غير المشروعة من وإلى العالم النامي بلغت ما لا يقل عن 13.8 في المئة من إجمالي التجارة، أو 2 تريليوني دولار أميركي في العام 2014، وهو العام الأخير التي توَفَّرت فيه بيانات موثوقة. لقد هجرت الصين وحدها أموال غير مشروعة مذهلة بقيمة 3.97 تريليونات دولار بين عامي 2000 و2011، وفقا ل”النزاهة المالية العالمية”.
كانت الأموال المغسولة تتدفق من روسيا خلال الجزء الأكبر من عقدين من الزمن، حيث إغتنى قلة من “الأوليغار” من نظام فلاديمير بوتين بنهب سلسلة طويلة من الشركات المرتبطة بالحكومة، لا سيما في مجال النفط والغاز. وقد ذهبت الأموال إلى منازل مُكلفة على طول شاطىء “الكوت دازور” في فرنسا وكذلك في لندن ونيويورك وبيفرلي هيلز في الولايات المتحدة. وفي إحدى المراحل، قال أصحاب العقارات في نيويورك إن ما يقرب من 30 في المئة من مبيعات الشقق السكنية كانت تذهب إلى المشترين الذين أدرجوا عناوين دولية بما في ذلك – ولا سيما – عائلة رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب رزاق، وكذلك فيكتور خرابونوف، عمدة سابق لمدينة “ألماتي”، عاصمة كازاخستان، الذي إتُّهِم بسرقة مئات الملايين من الدولارات من البلاد.
مع إعلان إدارة ترامب حالة مواجهة ضد إيران، تسعى السلطات الأميركية إلى إغلاق الأموال الإيرانية التي تتدفق إلى دبي والبحرين والكويت وقطر بالإضافة إلى البنوك في آسيا بما في ذلك بنك “ووري” والبنك الصناعي الكوري الجنوبي، وفقاً لوكالة بلومبورغ للأنباء، الني إستشهدت بوثائق وشهادات حول كيفية قيام إيران بسحب مليار دولار من أموال حساب “ضمان” (escrow) للتهرب من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. ومن بين البنوك الأخرى التي تعرّضت لانتكاسات الإمتثال، البنك الزراعي الصيني، أحد البنوك الأربعة الكبرى في الصين كما بنك سونغهوا في كوريا الجنوبية وبنك ميغا التجاري الدولي في تايوان، وفقاً لبلومبورغ.
يمكن لتنفيذ الحملة على بنوك الشرق الأوسط أن تسبب أزمة سيولة في المنطقة وخصوصاً في دبي وقطر، وهما من أكبر المراكز المصرفية في المنطقة، وكذلك في لبنان، بالتساوي مع قبرص التي تحوّلت إلى مستودعٍ للأموال المغسولة التي تمّ تحويلها، حسب الإدارة الأميركية، إلى تمويل الأنشطة الإرهابية ل”حزب الله” وجماعات متطرفة أخرى. ويتكهن أحد المصادر بأن عدم اليقين بشأن أزمة سيولة كان يحفز عدم الإستقرار في الأسواق الناشئة خلال الشهرين الماضيين، حيث تواجه الأرجنتين اللآن أزمة مالية مرة أخرى.
الواقع أن مشاكل قبرص هائلة. وقد كتب ستيليوس أورفانيدس، في صحيفة “سايبروس بيزنس مايل” الإقتصادية القبرصية في 29 أيار (مايو) الفائت، أن هناك “قلقاُ متزايداً في صفوف المهنيين ورجال الأعمال في قبرص حول تأثير ممارسات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الأكثر صرامة التي يتم تطبيقها، وسط مخاوف من أن الضغط الأميركي الأخير على مزوّدي الخدمات المالية والتجارية في الجزيرة من أجل تنفيذ العقوبات الأميركية بشكل جدي، قد يكون له تأثير تحويلي على الإقتصاد”.
وقد تجلّى أهم مثال ببنك “أف بي أم إي” (FBME) سيئ السمعة، الذي يقع مقره في تنزانيا على الرغم من أن 90٪ على الأقل من أعماله أُجريت في نيقوسيا قبل أن تغلقها شبكة إنفاذ قوانين الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية المعروفة بإسم “فن سن” (FinCEN) في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بعد حملة إستمرت ثلاث سنوات. وكان البنك الذي يملكه فادي وأيوب فريد صعب هو مستودع الأموال لشخصيات مشهورة مثل ديمتري كلايف وأندري بافولوف المتهمان الرئيسيّان في نهب “هيرميتاج كابيتال” (Hermitage Capital) التي كان يسيطر عليها ويليام برودر قبل طرده من روسيا. ومن جهتها تواصل عشرات المنظمات الخارجة عن القانون التي تعاملت بنكياً مع “أف بي أم إي” وآل صعب إنكار إرتكابها لأي خطأ أو جرم.
نتج من سرقة “هيرميتاج كابيتال” وعواقبها ما يسمى قانون “ماغنيتسكي” (Magnitsky Act)، الذي تم تمريره في الكونغرس الأميركي بعد تعرض سيرغي ماغنيتسكي، وهو شريك لبرودر، للضرب حتى الموت في سجن روسي بينما كان يحاول التحقيق في السرقة. ونتيجة لذلك، تم منع قائمة من كبار المسؤولين الروس من التعامل مع الأعمال المالية من خلال نظام “سويفت”. وكانت ناتاليا ف. فيسلنتسكايا، المحامية المدعومة من الكرملين والتي اجتمعت مع دونالد ترامب الإبن وآخرين في برج ترامب نيويورك في حزيران (يونيو) 2016، تحاول الحصول على إلغاء وعكس قانون “ماغنيتسكي”. لقد أصبح هذا الاجتماع الآن موضوعاً للتحقيق الذي يقوم به المحقق العدلي روبرت مولر حول محاولات روسيا لتخريب إنتخابات العام 2016 التي أوصلت ترامب إلى السلطة.
كان مصرف “أف بي أم إي” موضوع سلسلة روايات في العام 2016 في الصحف العالمية وخصوصاً في صحيفة “آسيا سانتينال” التي كشفت غسل الأموال المزعوم لملايين الدولارات من بنك “موتيارا” (Mutiara) الذي يتخذ من أندونيسيا مقراً له، والذي كان يُعرف سابقاً باسم “بنك سانتشوري” (Bank Century)، حبث نهبه مالكه روبرت تانتولار وغيره خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2009. وقد إستحوذت المجموعة المالية اليابانية “جي تراست” (J Trust) المدعومة بشكل كبير من نوبويوشي فوجيساوا على بنك موتيارا.
ومن بين الأهداف الرئيسية للحملة، سنغافورة ، التي حسب أحد التقارير يوجد ما يعادل 368 مليار دولار من إندونيسيا في بنوكها – 40 في المئة من إجمالي الودائع المصرفية للجزيرة. في واحدة من عمليات السرقة المدهشة، تم نهب أكثر من 13.5 مليار دولار من شريان إعادة تمويل البنك المركزي الإندونيسي ل48 بنكاً متضرراً خلال الأزمة المالية الآسيوية 1997-1998. وفيما كانت الحكومة تضخ الأموال إلى البنوك في محاولة لإنقاذها، كان المصرفيون بدورهم يسرقونها وينقلون الأموال إلى سنغافورة.
وفقاً لتقارير صحافية نُشرت في العام 2007، يعيش حوالي 18,000 إندونيسي يوصفون ب”الأغنياء” في سنغافورة. وقيل إنهم يملكون ما مجموعه 87 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي موازنة الحكومة السنوية في إندونيسيا في ذلك الوقت.
ويفيد بعض التقارير إن لجنة القضاء على الفساد في إندونيسيا تحقق في حركة ما يصل إلى 1.5 مليار دولار من بنك “جي. ترست”، بنك موتيارا السابق، الذي تم بيعه إلى مجموعة الخدمات المالية اليابانية “جي تراست غروب”. ويدعم “جي ترست” بقوة “تايو باسيفيك بارتنرز”، الصندوق الاستثماري الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، والذي كان كبير مسؤولي الاستثمار فيه ويلبر روس، وهو الآن وزير التجارة للرئيس دونالد ترامب. ويعتقد أن البنك الإندونيسي مرتبط ببعض أقوى السياسيين في البلاد. ويُقال إن أهداف لجنة القضاء على الفساد تشمل دكتور ه. بويدونو، محافظ البنك المركزي السابق، ونائب الرئيس السابق للرئيس سوسيلو بامبانغ يودهويونو.
ويتردد أن البعض الآخر يضم رفعت علي رضوي، وهو مواطن بريطاني واجه في وقت من الأوقات إمكانية فرض عقوبة الإعدام بسبب المساعدة في نهب “سنتشوري بنك”، الهيكل الذي صمم منه بنك موتيارا، وهشام الوراق، وهو مواطن سعودي كان أيضاً مساهماً رئيسياً في البنك. لكن الوحيد الذي تمّ سجنه كان روبرت تانتولار، رئيس “سنتشوري بنك”.
وقد إستخدم زعماء بلدان أخرى سنغافورة كمستودع مصرفي لتهريب الأموال أيضاً، بما في ذلك قادة ميانمار، التي نقل جنرالاتها ملايين من الأموال المسروقة من بلادهم إلى بنوك سنغافورة. كان السنغافوريون ممتنين للغاية لدرجة أنهم سمّوا في العام 2009 شتلة زُرعت في حديقة سنغافورة النباتية الرائعة بإسم رئيس ميانمار السابق “ثين سين” عندما قام بزيارة. وفي الآونة الأخيرة، إتخذت سنغافورة إجراءات صارمة ضد بنكين سويسريين “بي أس آي بنك” (BSI Bank) و”فالكون برايفت بنك” (Falcon Private Bank) وسحبت تراخيصهما في العام 2016 لأنهما عملا كقنوات لمليارات الدولارات التي تم نقلها من شركة “ماليزيا ديفولوبمنت” (1Malaysia Development Bhd) المليئة بالفضائح، كما تعرّض بنكان آخران “ديفولوبمنت بنك أوف سانغافور” (DBS) و”يو بي أس” (UBS) السويسري الكبير لغرامات باهظة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى