الشاهد في عين العاصفة

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

فضّل رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد أن لا يستسلم، لا للإقالة، ولا للمثول أمام البرلمان في إمتحان عسير ليس مضمون العواقب، كما كان الأمر مع الحبيب الصيد، بل إختار المواجهة، وراهن على موقع الهجوم بقطع النظر عن النتيجة.
دخل الشاهد في حرب حقيقية إختار هو نفسه موعد إنطلاقتها، وهو لا يعرف، كما لا يعرف غيره، متى نهايتها وماذا ستكون نتيجتها.
هل موعد إندلاع الحرب المُعلَنة، هو التوقيت الأفضل؟ هل كان يمكنه الانتظار؟ هل الساعة مواتية؟ وهل هي سابقة لأوانها؟ وهل إذا تأخرت تكون دخلت موقعاً قاتلاً بالنسبة إليه؟
أسئلة من السابق لأوانه الجواب عنها، ولكن من المؤكد أن مستشاريه، وله من المستشارين العدد الأوفر والأقدر، نصحوه بأن ليس أمامه غير المواجهة إذا كان يريد أن تكون له حظوظ، أي حظوظ، للبقاء في موقعه، ولو دارت عليه الدوائر وفقد المقعد غير المريح الذي يجلس عليه.
إختار التوقيت الذي بدا له ولمستشاريه مناسباً، لإطلاق صاروخه، كما إختار الموقع الذي يريد أن يصيبه برمايته، أي حافظ قائد السبسي، الرجل الأقل شعبية سواء لدى الجماهير، ووفق إعتقادنا حتى داخل حزبه “نداء تونس”، الذي جاءه بمباركة من والده رئيس الجمهورية في محاولة للتوريث، وبمساعدة يوسف الشاهد نفسه الذي نظّم له “مؤتمر” سوسة المطعون فيه، والذي نال ثمناً مُجزياً على خدماته بتعيينه رئيساً للحكومة، من دون أن يكون مؤهلاً لذلك أو على الأقل الأكثر تأهلاً لذلك.
جاءت الكلمة، بعد الإعلان عنها في مختلف القنوات، وظن الكثيرون أنه سيعلن الاستقالة من منصبه، و” كفى الله المؤمنين شر القتال”، غير أن الرجل بدا أن لا نية له في ذلك، بل بدا مُصمّماً على دخول معركة يعرف أنها غير متكافئة، لأنه يريد التأكيد بأنه ليس لعبة يأتون بها، ويغسلون أيديهم منها متى يريدون، المقصود هنا، الرئيس نفسه ونجله “إبن أبيه” كما يسمونه.
تماماً في الوقت الذي يُقال من مصادر صحافية أجنبية، أن رئيس الدولة قد يكون ينوي اللجوء للفصل 74 من الدستور في فقرته الثالثة أو غيره، التي تقول: “وإذا تعذّر إجراء الإنتخاب (في باب الرئاسة) في موعده بسبب خطر داهم، فإن المدة الرئاسية تُمدَّد بقانون”.
ويحق للمرء أن يتساءل عن المخرج الممكن في هذه الحال، ومسؤولو البلاط على قدرة كبيرة لإيجاد المخارج المُحتملة، طبعاً خصوصاً وأن الخطر الداهم لم يُحدد الدستور طبيعته، ما زال الوقت بعيداً نسبياً فالانتخابات التشريعية والرئاسية مقدرة لأواخر 2019.
من الناحية الشكلية ووفقاً لمن إتصلت بهم من المتخصصين في تحليل الخطاب السياسي، فإن الشاهد، وبصورة عامة، إعتمد ولا شك، جهابذة في فنون الاتصال، من حيث السير في أغوار ما كان يريد تبليغه، وسار بمستمعيه خطوة بخطوة إلى العقدة، وهي بالذات مهاجمة حافظ قائد السبسي، وتحميله مسؤولية تراجع حزب “نداء تونس”، ثم التنبيه لخطر كل ذلك لا فقط داخلياً، ولكن أيضاً من ناحية المعاملات المالية والاقتصادية مع شركاء ومقرضي تونس.
ومن هذه الناحية فإن الشاهد عموماً أفلح في تبليغ رسالته، والتنبيه للخطر الداهم على الدولة الذي يمثله نجل رئيس الجمهورية.
هذا من حيث مبنى الخطاب، ولكن كما يقول الإتصاليون، فإنه لا يكفي أن تُبلغ ما تريد، ولكن كيف يتقبّله المُتلقّي ومدى الإقتناع به.
ومن وجهة نظري، ولست إختصاصياً لا في تحليل الخطاب السياس ، ولا إتصالياً أو إختصاصياً في علوم الإتصال، وأعتبر نفسي صحافياً، وربما مُحلّلاً صحافياً لا غير، فإن وجهة نظري تتمثل في أن الكلمة، أي كلمة الشاهد، جاءت أطول مما ينبغي، لخطاب موقف حاسم، وأنها دخلت في تفاصيل لم يكن له أن يدخل فيها، شوّشت على الموقف الحاسم.
والسؤال: ما هو المنتظر بعد هذا الخطاب وأقول قصداً الخطاب، فهو ليس كلمة عابرة؟ وبحساب الربح والخسارة، هل يكون الشاهد قد ربح اللعبة ( الطرح) أم خسرها، أو أنه بقي بين بين؟
من وجهة نظري فإن الشاهد لم يرد أن يكون ضحية اللعبة السياسية غير الأخلاقية التي تجري في تونس. فقد جيء به ليكون سبباً في إستبعاد سلفه الحبيب الصيد، الأشد إخلاصاً بين المخلصين للرئيس الباجــــــــي قائد السبسي، وأيضاً لوضع حافظ قائد السبسي على حساب آخرين في موقع القيادة في “نداء تونس”، فكان مسقطاً. وبعدما إستنفدوا دوره، أي الشاهد، جاء الوقت لرميه كالنواة على حافة الطريق، علماً أنه لم يكن يوماً يُنفّذ سياسته، بل سياسة من أتى به لغير سابق تأهيل خاص.
الحبيب الصيد ترك نفسه ينساق من دون رد فعل جدير برجل دعي لأكبر الأدوار، فوفقاً للدستور فإن رئيس الحكومة الذي يستمد سلطته من السلطة العليا أي المجلس النيابي، لم يجد المسؤولون من مخرج إلا سحب ثقة ذلك المجلس منه.
الشاهد لم يرضَ بهذا الدور، وقرر أن يقاوم، وخطابه مساء الثلاثاء الفائت (29/05/2018) يدخل بامتياز، في هذا الإصرار على المقاومة، مهما كانت النتيجة.
هنا السؤال من يقف أو سيقف معه ومن يقف أو سيقف ضده؟
يقف ضده بوضوح إتحاد الشغل، العاجز عن فهم وإدراك ظروف المرحلة وصعوبتها، فهو كمثل ما كانت عليه نقابة الـ”س.ج. ت.” الفرنسية بعيد الحرب العالمية الثانية، وفي ظرف الجمهورية الرابعة الشبيه دستورها بدستور الجمهورية الثانية في تونس، أو على الأصح الشبيه دستورنا بدستور الجمهورية الفرنسية الرابعة.
المطالبة ولا غير المطلبية، أما اقتصاد البلاد وتوازناتها فلا أحد يلتفت إليهما، وهو ما سارت عليه الحكومات المتعاقبة منذ 2011، حتى جاء الشاهد، وتحت ضغط الأحداث والإكراهات الاقتصادية بدأ منذ موازنة 2017 وبخاصة 2018 في إستيعاب الدرس.
تقف معه بوضوح مشوب بالحذر حركة “النهضة” على أساس، ما يمكن أن تحصده من مقاعد إضافية في حكومة تدعو لإعادة هيكلتها.
كما تقف معه المؤسسات المالية الدولية، والمستثمر الأجنبي وحتى الداخلي ممن يرون جدية في التعامل مع الواقع السيىء المُعاش في تونس، ومحاولة الخروج منه.
موقف ستفصح عنه الأيام المقبلة بعد أن رمى الشاهد حجراً في البركة الآسنة ل”نداء تونس”، فهل سينتصر الباجي لابنه على الشاهد، لحزب بات شبحاً لنفسه؟ ولعل الظاهرة الأولى المنتظرة هي ما إذا كان وزراء النداء سيستقيلون أو تستقيل أكثريتهم من الحكومة القائمة، وعندها تكون الضربة القاضية، إذ كيف سيأتي الشاهد من النداء بوزراء لهم مصداقية لتعويض المغادرين. أما الظاهرة الثانية فهي موقف كتلة “نداء تونس” التي يرأسها سفيان طوبال، الوفي بين الأوفياء لنجل رئيس الدولة، هل سيُطلَب منها التصويت ضد الشاهد إذا جدّ الجد، وطُلِب سحب الثقة من رئيس الحكومة، أم إنها ستشهد إنقساماً آخر غير الإنقسامات السابقة؟

• عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان سابقاً رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. تستطيعون التواصل معه على بريده الإلكتروني: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى