ماذا تريد إيران حقاً في سوريا؟

منذ بداية إنخراط إيران في النزاع السوري إنتشرت آراء عدة لخبراء معروفين حذّر بعضهم من أهدافها التوسعية فيما أكد البعض الآخر أن طموحاتها إنشاء هلال شيعي من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، إلّا أن غالبيتهم مع ذلك حذّرت من أن سوء فهم نوايا طهران الحقيقية قد يؤدي إلى كارثة. تُرى ماذا تريد إيران حقاً في سوريا؟

ضرب إسرائيل للمواقع الإيرانية في سوريا: أول مواجهة عسكرية مباشرة بين طهران وتل أبيب

بقلم بايام مُحسني وحسن أحمديان*

في أعقاب الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة ضد قاعدة “تي 4” الجوية في سوريا وإسقاط مقاتلة “أف -16” إسرائيلية في شباط (فبراير) الفائت، تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران. في 26 نيسان (إبريل) الفائت، تحدث وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن إحتمال وقوع اشتباكات مباشرة بين الجانبين. وفي ليلة 9 أيار (مايو)، تم إطلاق وابل من الصواريخ من الأراضي السورية، إستهدفت المواقع الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، والتي ما لبثت إسرائيل أن ردت عليها بمهاجمة مواقع إيرانية في سوريا.
في مثل هذه اللحظة الحساسة والدقيقة، عندما يتزايد خطر سوء التقدير والمواجهة، من الضروري أن يحصل صانعو السياسة في واشنطن على المعلومات الضرورية ويُكوِّنوا فهماً أوضح لأهداف إيران في سوريا، وهي ليست هجومية وعدوانية ولكنها تُركّز على ردع إسرائيل وغيرها من الأطراف الأجنبية الرئيسية التي لديها مصالح في بلاد الشام.
قد يؤدي سوء فهم النوايا الاستراتيجية لإيران إلى مواجهة عسكرية ودورة تصاعدية – بخاصة في أعقاب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإنسحاب من الإتفاقية النووية الإيرانية.
بدلاً من إثارة مواجهة عسكرية مع إسرائيل، فإن تصرفات إيران في سوريا تهدف أولاً وقبل كل شيء إلى الحفاظ على الحكومة السورية كجزء من “محور المقاومة” – وهو تحالف قديم بين إيران وسوريا و”حزب الله” بالإضافة إلى آخرين. كما تسعى إيران أيضاً إلى إقامة توازن في القوة – بما في ذلك الردع – مع جهات إقليمية ودولية أخرى لها مصالح في سوريا. ولم تكن تحركات إيران الأخيرة، والتي ربما إعتُبرت إستفزازية، كخرق طائرة إيرانية من دون طيار للمجال الجوي الإسرائيلي، إلا تكتيكات لرسم خطوط حمراء ورفع الكلفة على إسرائيل، في حال إختارت مواجهة إيران في سوريا.
بالنسبة إلى الإسرائيليين، لا يُمكن التسامح مع التعزيزات العسكرية الإيرانية، لأنها تتجاوز خطها الأحمر لمنع إقامة قواعد عسكرية إيرانية دائمة في سوريا. ووفقاً لهذا التفسير للأحداث ، فإن الهدف من حملة إيران في سوريا هو توسيع إحتمالات قوتها التقليدية ومنشآتها العسكرية خارج حدودها بهدف تدمير إسرائيل. وفي حين أن بعض النخب الإيرانية قد يشارك في هذا الهدف، إلّا أن النظرة الإسرائيلية السائدة حول الوجود الإيراني في سوريا أساءت فهم وقراءة الأهداف الإيرانية الفعلية وترتيب أولويات طهران الحالية بالنسبة إلى مصالحها في سوريا.
كما فشل هذا الرأي في التعامل بشكل جدي مع التقييدات التي تواجهها إيران في سوريا، لا سيما التردّد الحقيقي جداً للحكومتين السورية والروسية للسماح لإيران بإنشاء منشآت عسكرية رسمية داخل البلاد. ويفترض هذا الراي أن سوريا ليس لها أي رأي في كيفية إدارة علاقاتها مع إيران بسبب ضعفها، فيما الواقع على الأرض هو أشدّ تعقيداً. إن سياسة القوة الأوسع التي تشمل الرئيس السوري بشار الأسد، وروسيا، وإسرائيل، والمجتمع الدولي تُقيّد فعلياً سياسة إيران تجاه سوريا. إن السرد المُهيمن يُصوّر في آن واحد إيران التوسعية التي هي عدوانية وهجومية، وإيران المُسالمة التي لا تنتقم إذا تعرضت للهجوم. ومن المحتمل أن يكون هذان التصوران خطرين، بخاصة إذا إستُخفّ وقُلل من شأن رد إيران على الهجمات العسكرية المحتملة.
في حين أن إيران وشركاءها معادون بشدة لإسرائيل، فإن إثارة مواجهة عسكرية مع الدولة العبرية ليست أولوية إيرانية، وفقاً لتحليلاتنا. وبدلاً من ذلك، تسعى إيران إلى تعزيز موقفها الذي حققته بشق الأنفس في منافسة القوة بين أصحاب المصلحة الرئيسيين في الصراع السوري: تركيا والولايات المتحدة والحكومة السورية، إلى جانب حلفائها. تزود سوريا إيران بعمق استراتيجي حيوي، مما يسمح لها بعرض القوة عبر بلاد الشام، وتعطيها بوابة ل”حزب الله”، لتعزيز الردع الإيراني ضد إسرائيل. كان إنهيار نظام الأسد وتقطيع أوصال الدولة السورية بمثابة ضربة قوية لإيران كادت تُفقدها أحد حلفائها الرئيسيين القلائل في العالم العربي.
وبناءً على ذلك، فمن وجهة نظر إيران، فإنها الفريق الذي يتعرّض للتهديد في سوريا. لقد تجذّر هذا الرأي بين النخب الإيرانية في بداية الصراع السوري، عندما وجدت إيران وضعها في موقف دفاعي، وبدا إحتمال بقاء الأسد في الجكم بعد الاحتجاجات منخفضاً. في الواقع، إعتقدت الحكومة الإيرانية أن الانتفاضة ضد الأسد كانت مؤامرة أجنبية تهدف إلى تقويض نفوذ إيران – وهو تهديد مباشر قاد البعض حتى إلى الإدعاء بأنه “إذا خسرنا سوريا، فلن نكون قادرين على الحفاظ على طهران”.
لذلك كان الهدف من دخول إيران في الحرب هو لتقديم الدعم لشريكها المترنّح ومحاولة خفض خسائره من طريق تقوية الميليشيات الحليفة المحلية داخل سوريا مع التركيز على تجزئة البلاد ما بعد الأسد – خطة طوارئ منطقية ومحدودة في حالة سقوط الأسد تم تفسيرها بشكل غير صحيح على أنها عملية توسع إيرانية.
من وجهة نظر طهران، تهدف الضربات الإسرائيلية ضد المواقع المرتبطة بإيران وحلفائها في سوريا، إلى جانب الخطاب الحربي الأميركي والسعودي المتصاعد، إلى تقويض قدرة إيران الرادعة غير المؤكدة. لذا من المهم النظر إلى أعمال الاستفزاز الإيرانية من خلال عدسة الردع وخطوطها الحمراء تجاه إسرائيل.
لقد قررت إيران أن أفضل طريقة للحفاظ على إستمرارية بقاء سوريا في محور المقاومة هو التأكد من أن الدولة السورية تحقق سيطرتها الكاملة على أراضيها، بخاصة بالنظر إلى التحديات الخطيرة جداً التي تواجهها سوريا من الجماعات المسلحة المتنافسة بعد زوال تنظيم “داعش”. صحيح أن إيران والميليشيات المتحالفة معها، والحكومة السورية، وروسيا لها اليد العليا على الأرض، ولكن يبدو أنه لا يوجد ما يضمن أن الحكومة السورية يمكنها تحقيق النصر الكامل وتوحيد البلاد بالنظر إلى الوجود العسكري التركي والأميركي هناك. في نظر طهران، إن الوضع صار أكثر خطورة لأن القادة الإيرانيين يعتقدون بأن الولايات المتحدة تخطط لتقسيم سوريا.
في حين أن تركيز الأطراف الخارجية في الصراع السوري كان مُنصبّاً على هدف واحد محدد وهو محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، فإن المنافسة المحيطة الأوسع والاحتكاك بين أصحاب المصلحة الرئيسيين في سوريا هما الآن في صدارة المسرح. إن المجموعات الثلاث الأقوى هي تركيا وحلفاؤها؛ قوات سوريا الديموقراطية وداعمتها الرئيسية الولايات المتحدة؛ وحكومة بشار الأسد وحلفاؤها، بما في ذلك إيران.
وبسبب قلقه من أصحاب المصلحة المُنافسين، ركز المعسكر الإيراني – السوري قواته العملياتية في أماكن لا تزال تحت سيطرة الدولة السورية. وقد أعربت إيران من جهتها عن عزمها على إعطاء الأولوية لمسرحين خاصين في حملتها في سوريا. أحدهما كانت مدينة دير الزور، التي كانت مصدراً للمنافسة بين قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة ونظام الأسد وحلفائه. والآن بعدما أصبح تنظيم “الدولة الإسلامية” خارج الصورة، تتقاتل هاتان القوتان على مقربة من بعضهما البعض، وقد دخلت المواجهة في حساباتهما الاستراتيجية مع وقوع اشتباكات في الآونة الأخيرة.
المسرح الثاني هو إدلب، المعقل الرئيسي الأخير الذي تسيطر عليه أعداد كبيرة من مقاتلي “جبهة النصرة” وجماعات تكفيرية أخرى. من المرجح أن يتواجه معسكرا تركيا من جهة وإيران وسوريا من جهة أخرى في هذه المعركة الحاسمة، تماماً كما كان هناك إحتمال لوجود مواجهة حقيقية بين الجانبين في مدينة عفرين الكردية في وقت سابق من هذا العام. ومع ذلك، فهناك، بالإضافة إلى هذين المسرحين، جيوب المعارضة في عمق الأراضي التي يسيطر عليها الأسد، بما فيها جنوب سوريا، التي يتعيّن على الحكومة غزوها لاستعادة السيطرة عليها، كما شهدنا أخيراً في المعركة الشرسة في الغوطة الشرقية. إن الاستعدادات لهذه المعارك المقبلة كانت الشغل الشاغل للجيش السوري وحلفائه في الأيام الأخيرة.
وبالنظر إلى هذه الأهداف والإنخراط العميق للقوات الإيرانية في هذين المسرحين الرئيسيين، فليس من الأولويات الاستراتيجية بالنسبة لإيران أن تسعى إلى صراع مع إسرائيل. تمتلك الجمهورية بالفعل موارد محدودة، وتدير أحزاباً متنافسة متعددة في سوريا وهذا ما يُبقي الإستراتيجيين الإيرانيين قلقين لا ينامون في الليل. ومع ذلك، لا تزال إيران حريصة على إرساء قوة الردع ضد إسرائيل، حيث قال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليمان في كانون الثاني (يناير) الفائت إن إسرائيل قوة عدوانية تمتلك “300 رأس حربي نووي” وميلاً لتنفيذ “ضربات إستباقية”.
بناءً على سلوكها التاريخي، من غير المحتمل أن تلتزم إيران بالخطوط الحمراء الإسرائيلية التي تُضعف أهدافها الأوسع في سوريا. ولتعزيز مصداقية مبدأ الردع، ستشعر طهران بأنها مضطرة للرد على أي هجوم إسرائيلي.
وقد ذكر المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، مراراً وتكراراً أن وقت “أضرب وأهرب” قد ولّى، وهو ما يعني أنه إذا تصاعدت الأمور، فإن أي ضربة على إيران سيتبعها إنتقام إيراني. إذا ترددت إيران بالرد، فإن ذلك سيُكلّف الجمهورية الإسلامية كثيراً من سمعتها. وهذا بدوره يثير مخاطر دورة تصاعدية يصعب إدارتها وتتطلب بشدة ضرورة توخي الحذر الشديد من إسرائيل وإيران في سوريا.
في الوقت الذي يُقوِّم ويُقَيِّم صانعو السياسة في الولايات المتحدة وإسرائيل النوايا الإيرانية في سوريا، سيكون من الحكمة أن يتذكروا أن طهران نجحت في توسيع نفوذها من قبل عندما يكون هناك فراغ في السلطة. من لبنان إلى العراق إلى اليمن، إستغلت إيران مناطق النزاع التي لم تكن من صنعها لتعزيز أهدافها الإستراتيجية.
بالنظر إلى هذه السوابق، تواجه إسرائيل لغزاً. إن دولة سورية مستقرة وقوية هي أفضل خيار للأمن الإسرائيلي – وهي دولة تستطيع بشكل أقوى كبح النفوذ الإيراني في البلاد، حيث لا توجد فراغات في السلطة للإرهابيين المتطرفين مثل “الدولة الإسلامية”. من ناحية أخرى، قد تؤدي مواجهة إسرائيلية أكثر قسوة مع إيران في سوريا إلى تقويض إمكانية قيام دولة سورية مستقرة – مما يمهد الطريق أمام إيران وحلفائها لملء الفراغ وتعزيز موقفهم في سوريا، مما يثير الصراعات المحتومة التي من شأنها أن تترتب على ذلك.

• بايام محسني هو مدير المشروع الإيراني في مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية في جامعة هارفارد؛ وحسن أحمديان هو زميل باحث ما بعد الدكتوراه في المشروع الإيراني في مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية في جامعة هارفرد.
• كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى