كيف قتلت عملية السلام حلّ الدولتين

في حين كانت آفاق نجاح إتفاق السلام الذي ترعاه الولايات المتحدة ضئيلة أصلاً قبل تولي دونالد ترامب السلطة، فإن مقاربته للنزاع ربما أقنعت القادة الفلسطينيين أخيراً بأن لديهم المزيد ليخسروه بالبقاء في عملية سلام تهيمن عليها واشنطن والأفضل لهم الخروج منها. ومع ذلك، فإن الاحتمالات القاتمة المتزايدة لحل الدولتين لن تكون من دون تكلفة بالنسبة إلى أميركا.

القمة العربية في السعودية: رفضت تماماً إعلان ترامب بخصوص القدس

بقلم خالد الجندي*

كان قرار الرئيس دونالد ترامب في كانون الأول (ديسمبر) الفائت بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قالباً ولاغياً بذلك 70 سنة من سياسة الولايات المتحدة والإجماع الدولي، بمثابة نقطة تحوّل في عملية السلام التي رعتها أميركا بين الإسرائيليين والفلسطينيين. باعتبارها واحدة من أكثر القضايا الشائكة في الصراع، فضلاً عن كونها رمزاً دينياً وسياسياً قوياً للمليارات من الناس في جميع أنحاء العالم، فقد كان يُنظَر إلى القدس منذ فترة طويلة على أنها مفتاح التوصل إلى تسوية سلمية نهائية. وقد قوبل إعلان ترامب بالإشادة والفرح من الجانب الإسرائيلي، وبالغضب والإدانة من جانب القادة الفلسطينيين، الذين أعلنوا منذ ذلك الحين أنهم لن يشاركوا بعدها في عملية سلام برعاية أميركية. وردّاً على ذلك، خفّضت الإدارة الأميركية المساعدة التي تقدّمها للاجئين الفلسطينيين بنسبة 80 في المئة تقريباً في حين وعدت بمزيد من قطع المساعدات إذا لم يوافق الفلسطينيون على العودة إلى عملية السلام. في غضون ذلك، صمدت أكثرية المجتمع الدولي، بما فيها غالبية الدول الأوروبية وحلفاء واشنطن العرب، وتوحّد الجميع ضد إعلان ترامب حول القدس. من جانبها، رفضت الإدارة الأميركية الإتهامات القائلة بأن هذه الخطوة تهدف إلى تحديد وضع المدينة المقدسة، وأصرّت على أنها مجرد “إعتراف بالواقع”.
مع ذلك لم يكن إعلان ترامب عن القدس “مقاربة جديدة” لحل النزاع، كما زعمت الإدارة، بل كان تتويجاً للتآكل المُطرد لسياسة الولايات المتحدة وتراجع فعالية الوساطة الأميركية خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. قد يُنظَر إلى قرار الإعتراف بالقدس على أنه محاولة لحلّ العديد من التناقضات الكامنة في عملية السلام، بعيداً من إعتماد القواعد المقبولة دولياً والتي تستند إليها العملية وتعمل على تسوية ساحة اللعب بين الجانبين، وذلك من طريق إعادة كتابة قواعد اللعبة الديبلوماسية. وبينما كانت آفاق نجاح إتفاق السلام الذي ترعاه الولايات المتحدة ضئيلة أصلاً، فإن مقاربة ترامب للصراع ربما أقنعت القادة الفلسطينيين أخيراً بأن لديهم المزيد ليخسروه بالبقاء في عملية سلامٍ تُهيمن عليها واشنطن والأفضل لهم الخروج منها. ومع ذلك، فإن الاحتمالات القاتمة المتزايدة لحل الدولتين لن تكون من دون تكلفة لأميركا.

السلطة والسياسة

طوال عقود، نظر العالم إلى الولايات المتحدة باعتبارها الفاعل الوحيد القادر على التوسط في إتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني. كان هذا صحيحاً على الرغم من الروابط الوثيقة بشكل فريد بين أميركا والدولة العبرية والنفوذ الإستثنائي للوبي المؤيد لإسرائيل على صانعي القرار الأميركيين، وخصوصاً في مجلسي الكونغرس. وكما قال آرون دايفيد ميلر، وهو من قدامى المشاركين والمتابعين لعملية السلام: “نحن، في الولايات المتحدة، قد لا نكون وسيطاً نزيهاً، لكن يمكننا أن نكون وسيطاً فعّالاً”. لكن هذا الافتراض يفترض أن إنهاء النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني كان في الواقع يشكل الأولوية الرئيسية للولايات المتحدة، إن لم يكن مصلحة أمنية وطنية “حيوية” كما إدّعت مختلف الإدارات، والأهم من ذلك أن الرؤساء الأميركيين كانوا على إستعداد لتجاوز قيود السياسة الداخلية و”العلاقة الخاصة” على الأقل في تلك القضايا واللحظات التي تهمّ أكثر. كلٌّ من هذين الافتراضين كان موضع شك بالفعل قبل إنتخاب دونالد ترامب، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، تم الاستغناء عنهما.
منذ أوائل تسعينات القرن الفائت، عملت عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة على إفتراضين أساسيين: أولاً، أنه يُمكن التوصل إلى تسوية سلمية ذات مصداقية من دون معالجة الإختلال الهائل في توازن السلطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وثانياً، أنه سيكون ممكناً (إن لم يكن من المرغوب فيه) إخضاع السياسة الفلسطينية الداخلية إلى الإحتياجات المُتَصَوَّرَة لعملية السلام. لم تكن إسرائيل مجرد طرف في صراع بل كانت قوة إحتلال حكمت ملايين الفلسطينيين الذين كانت تتفاوض معهم. ومع ذلك، ظل رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون طوال ربع القرن الماضي مُترَدِّدين على نحو متزايد في إستخدام نفوذهم الكبير مع إسرائيل لدفع عملية السلام في الوقت الذي كانوا يعملون فيه بنشاط لمنع مثل هذه الضغوط من الأمم المتحدة وغيرها من المنتديات. وإستند هذا إلى الإعتقاد بأن الزعماء الإسرائيليين سيكونون أكثر رغبة في “المجازفة من أجل السلام” إذا شعروا بالأمان السياسي والعسكري. ولم يتفق كل رئيس أميركي مع هذا المنطق، لكن معظمهم إنضم إليه، سواء من خلال الإقتناع أو كمسارٍ سياسي أقل معارضة.
في حين أن العلاقة الخاصة لإسرائيل مع الولايات المتحدة كانت مُحصَّنة إلى حد كبير من صعود وهبوط عملية السلام، فقد ظلّ إرتباط واشنطن بالزعماء الفلسطينيين يعتمد بشكل كبير على كلٍّ من إسرائيل وعملية السلام. لم يكن الأمر ببساطة أن تكون لدى المسؤولين الأميركيين “أذن صاغية” للسياسات الداخلية الفلسطينية، لأن العديد من صانعي السياسة في الحزبين الديموقراطي والجمهوري يتطلب ويشترط أيضاً تغيير بعض جوانب السياسة الفلسطينية لتحويلهم إلى شريك سلام مناسب. وبالنظر إلى إعتماد السلطة الفلسطينية الكبير على المعونات الأجنبية وحسن النوايا الإسرائيلية من أجل بقائها، فقد خضع القادة الفلسطينيون لمجموعة من الشروط والقيود، تم سنّ الكثير منها في القانون الأميركي، في ما يتعلق بأدائهم الأمني والحكم الداخلي والأنشطة الديبلوماسية.
وبعبارة أخرى، لم يكن تركيز الوساطة الأميركية على تغيير الديناميكيات السياسية والقوة الأساسية التي تدعم الصراع، بما في ذلك الواقع المركزي للاحتلال العسكري الإسرائيلي، ولكن على طمأنة إسرائيل أولاً وقبل كل شيء وعلى إصلاح الفلسطينيين بشكل ثانوي. ولكن من خلال إزالة الضغط على الطرف الأقوى وزيادة الضغط على الطرف الأضعف، عكست واشنطن الدور التقليدي للوسيط. لم يكن هذا ترتيباً أحادي الجانب. كجزء من الصفقة التي تم التوصل إليها في أوسلو، وافقت القيادة الفلسطينية، تحت قيادة ياسر عرفات ومحمود عباس، على التخلي عن قدر من السيطرة على سياساتها الداخلية وصنع القرار على أمل أن تقوم الولايات المتحدة في نهاية المطاف “بإقناع” إسرائيل بالحل المطلوب. ومع ذلك لم يأتِ مثل هذا الخلاص. في حين كانت هناك أوقات كان فيها رؤساء الولايات المتحدة على إستعداد لاستخدام نفوذهم مع إسرائيل أو تعزيز القادة الفلسطينيين لدفع عملية السلام، وعلى الأخص في ذروة عملية أوسلو في أواخر تسعينات القرن الفائت، فقد كانت هذه إستثناءات وليست القاعدة.

ثمن الفشل: كلينتون وبوش

كانت هذه النتيجة بناء على عمل خبيث أو جهل أكثر منه حساب سياسي بسيط. وبوصفهما أقوى طرفين فاعلين مرتبطين بعلاقة خاصة، كان لدى القادة الأميركيين والإسرائيليين الحافز والمال على حد سواء لتحويل أكبر قدر من المخاطر والتكاليف السياسية إلى الفلسطينيين قدر المستطاع – خصوصاً عندما تسوء الأمور. لبعض الوقت، بدا أن رهان الفلسطينيين على الخلاص الأميركي يؤتي ثماره. وكسر الرئيس بيل كلينتون العديد من المحظورات، حيث إستضاف ياسر عرفات في البيت الأبيض عشرات المرات وإستغل قوته الناعمة لتعزيز عرفات بينما كان يضغط ببراعة على حكومة بنيامين نتنياهو المتشددة. في النهاية، إقترب كلينتون من التوسط في صفقة سلام إسرائيلية – فلسطينية أكثر من أي رئيس أميركي قبله أو بعده. لكنه كان أيضاً أول من قام بتقليص المبادئ الأساسية التي تتحكم في عملية السلام بشكل كبير، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 242، الذي كرّس صيغة “الأرض مقابل السلام” وحرمة حدود 1967 من خلال منح موافقة ضمنية لبناء مستوطنات إسرائيلية من خلال إعفاءات “النمو الطبيعي”، والقدس الشرقية، وغيرها من الثغرات.
لكن أهم إسهامات كلينتون جاءت في الأشهر الأخيرة من رئاسته في أعقاب فشل قمة كامب ديفيد وإندلاع إنتفاضة الأقصى. لقد إرتكب جميع القادة الثلاثة على حد سواء عثرات وأخطاء في التقدير أثناء وبعد كامب ديفيد. ومع ذلك، فإن قرار كلينتون بإلقاء اللوم لفشل المفاوضات – وكذلك تصاعد العنف – على عرفات والفلسطينيين فقط، في حين أنه كان مناسباً سياسياً، فقد جاء على حساب أهداف الولايات المتحدة الأوسع للإستقرار والديبلوماسية. وبالإضافة إلى تضييق المجال السياسي للتوصل إلى إتفاق خلال الفترة المتبقية للرئيس كلينتون، فقد ساهم القرار في ترسيخ عبارة “لا شريك” التي إستغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في وقت لاحق والمساعدة على تأجيج العنف في الأشهر والسنوات التي تلت ذلك.
على الرغم من إنتشار الرواية الإسرائيلية الرسمية، لم يكن كامب ديفيد لحظة “وقّع أو إنسحب”، كما لم يكن موقعاً ل”عرض سخي”. وبدلاً، كان ذلك بداية عملية تعلّم لكلينتون والفريق الأميركي قدمت أساساً لمفاوضات أكثر جدية في الأشهر التالية. علاوة على ذلك، فإن اقتراح رئيس حكومة إسرائيل يومها إيهود باراك بإقامة دولة فلسطينية على نحو 80-90 في المئة من الضفة الغربية مع حكم ذاتي محدود في القدس الشرقية العربية، في حين أنه لم يسبق له مثيل من الناحية الإسرائيلية من دون شك، فإنه لم يرقَ إلى مستوى المطالب الفلسطينية. حقيقة أن التقدم الأهم حدث بعد كامب ديفيد وبعد إندلاع الانتفاضة لم يكن نتيجة لقدرة عرفات على الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لمزيد من التنازلات من خلال العنف، كما جادل البعض، ولكن بسبب إدراك واشنطن (وإسرائيل) للمتطلبات الأساسية لاتفاق سلام موثوق به. “على الرغم من الأساطير التي تم تأليفها منذ ذلك الحين” ، يتذكر أحد المفاوضين الأميركيين، “لم نكن حتى في الملعب”.
وفي الوقت نفسه، أدى تصاعد العنف وزيادة عدد الوفيات في الانتفاضة في وقت واحد إلى جعل محادثات السلام الجارية أكثر إلحاحاً وأقل إحتمالاً للنجاح. ونتيجة لذلك، بحلول الوقت الذي تقدم فيه الأميركيون بمقترح سلام جدي في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، كانت البيئة السياسية أقل ملاءمة لعملية صنع السلام. على عكس كامب ديفيد، كانت “معلمات” كلينتون للتوصل إلى إتفاق سلام دائم، والتي تصوّرت قيام دولة فلسطينية في غزة ونحو 95٪ من الضفة الغربية وسيادة فلسطينية على معظم القدس الشرقية، “في الملعب”. على الرغم من أن الزعيمين الإسرائيلي والفلسطيني أشارا إلى رغبة في العمل مع “معلمات كلينتون” في الوقت الذي أعربا فيه عن تحفظاتهما على جوانب معينة من الإقتراح، فقد إعتُبر ردّ باراك “نعم” وعرفات “بمثابة الرفض”.
بحلول العام 2013 ، توقفت عملية السلام – على الأقل كوسيلة لحل الصراع أو إدارته. لقد أدت إستقالة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض إلى إنهاء مشروعه الشهير لبناء الدولة في الضفة الغربية، الذي أشاد به الأميركيون والأوروبيون وحتى الإسرائيليون، على أنه نجاح كبير. إن إصلاحات فياض، التي أُطلق عليها تحبباً اسم “الفياضية” كانت تُعزى إلى إستعادة القانون والنظام الأساسيين وتقليص الفساد، فضلاً عن إنخفاضٍ قياسي في الهجمات على الإسرائيليين. ومع ذلك، لم يسفر نجاح إصلاحات فياض أو تحسّن الأمن عن تحرّكٍ نحو إقامة دولة فلسطينية أو إنهاء الاحتلال. بدلا من ذلك، فرض الكونغرس عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية. رداً على حملة عباس لدولنة القضية، أصدر الكونغرس قانونين جديدين يضعان شروطاً على قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على العمل في الولايات المتحدة وربطها بموافقة الرئيس على أن الفلسطينيين لم ينضموا إلى أي وكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة أو إتخذوا “أي إجراء” ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. وبصراحة، ربط الأمر الأخير بشكل واضح مستقبل مكتب المنظمة في واشنطن بعزم رئاسي على إشراك الفلسطينيين في “محادثات سلام جادة” مع إسرائيل.
إنهيار الجولة الثانية من المفاوضات في العام 2014، الذي تلته حرب أخرى في غزة وتجدد العنف في القدس الشرقية أكّدت كلها على الفشل المزدوج لعملية السلام، التي لم تكن لديها القدرة على حل النزاع ولا الوسائل لإدارته؛ إن المنطقتين الأكثر عرضة للعنف كانتا أبعد من متناول السلطة الفلسطينية ولم تكن عملية السلام مُصادَفة. ومع ذلك، ورغم تحذيراته الخاصة من أن “نافذة حل الدولتين تنغلق”، إستمرت إدارة باراك أوباما في لعب دورها في حذر وأمان. في الأشهر الأخيرة من الإدارة، تصاعدت التكهنات بأن أوباما قد يُقدّم “معلمات” خاصة به حول القضايا الجوهرية للصراع، بما فيها القدس، التي أخذ مصيرها يتحدد بسرعة بالحقائق الإسرائيلية على الأرض، أو ربما يتخذ خطوة أكثر راديكالية بالإعتراف بدولة فلسطينية. ومع دنو الساعة، وإنتخاب دونالد ترامب للرئاسة المُنتَظِر ساعة دخوله إلى البيت الأبيض، إختار أوباما مرة أخرى عدم فتح أرضية جديدة، مستبدلاً ذلك، بالامتناع عن التصويت على قرار مناهض للمستوطنات في مجلس الأمن.
لقد ترك الجمود في سنوات أوباما إنفتاحاً أمام إدارة ترامب، التي كانت أقل خجلاً حول تغيير الميزان لصالح إسرائيل وأكثر وضوحاً في محاولاتها لإعادة كتابة قواعد عملية السلام. يُنذر نهج ترامب في النزاع إلى تحوّل في السياسة الأميركية من التناقض إلى اللامبالاة. على الرغم من تأكيده المتكرر على رغبته في التوسط في “الصفقة النهائية”، فقد قال ترامب إن الولايات المتحدة ستدعم حل الدولتين “إذا وافق عليه الطرفان”، لكنه رفض الإلتزام بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي أو دولة فلسطينية ذات سيادة كأهداف صريحة لعملية السلام كما فعل كلّ من سبقه من رؤساء. علاوة على ذلك، من خلال الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يخسر ترامب فقط ويتنازل عن نقطة رئيسية من النفوذ الأميركي على إسرائيل ولكنه أزال أيضاً أحد الحوافز القليلة المتبقية التي كانت القيادة الفلسطينية تشارك على أساسها في عملية سلام برعاية أميركية. وبقيامها بذلك، أرغمت الإدارة الأميركية السلطة الفلسطينية على خيار آخر خاسر: أن تسير في عملية سلام تكون فيها القدس “خارج المائدة”، والسيادة الحقيقية ليست خياراً ومن المحتمل أن يتبخّر ما تبقى من شرعية عباس الداخلية. من ناحية أخرى، إذا واصلت السلطة مقاطعتها للولايات المتحدة، فإن إدارة ترامب سوف تزيد الإجراءات العقابية.

دولة واحدة أم دولتان؟

بوصفهم الحلقة الأضعف في السلسلة السياسية، ربما كان من المحتم أن يتحمّل الفلسطينيون وطأة الفشل المُزمن لعملية السلام – رغم أن النتائج لم تكن أقل ضرراً بسببها. تُسلط معضلة عباس الضوء على الخلل القاتل في تعامل أميركا مع عملية السلام خلال ربع القرن الأخير. لقد نجحت ترسانة واشنطن المتواصلة من “العصي” في جعل القادة الفلسطينيين أكثر طواعية، ولكنها تركتهم ضعفاء بحيث لا يمكنهم العمل كشركاء فاعلين في المفاوضات. فبدلاً من تيسير وتسهيل السلام، ساعدت عملية السلام على إضعاف القادة الفلسطينيين والمؤسسات السياسية الفلسطينية، في الوقت الذي عززت فيه حالة عدم الإستقرار والعنف. وبالمثل، فإن العرض “للجزر” الذي بدا أن لا نهاية له لم يجعل القادة الإسرائيليين أكثر قابلية للتنازل أو شجّعهم على “المجازفة من أجل السلام”، بل ساعد بدلاً من ذلك على تحمل التداعيات السياسية والاقتصادية وغيرها من تكاليف الاحتلال. في غياب ضغوط ذات مغزى، لم يكن لدى القادة الإسرائيليين أي حافز لاتخاذ القرارات الصعبة وغير الشعبية سياسياً التي يتطلبها حل الدولتين، مثل إخلاء المستوطنات اليهودية، أو نقل الأراضي المحتلة إلى السيادة الفلسطينية، أو تقسيم القدس. حتى لو تمكن المسؤولون الأميركيون بطريقة ما من إقناع أو إجبار عباس على المشاركة في المفاوضات، فإنه سيكون أضعف من أن يوافق على إتفاق سلام، ناهيك عن تطبيقه وتنفيذ بنوده. بكل المقاصد والأغراض، لم تعد عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة موجودة.
هل يُمكن لحلّ الدولتين والقيادة السياسية الفلسطينية الحالية أن يظلّا قائمين في غياب عملية السلام؟ وماذا يمكن، إذا كان هناك أي شيء، أن يحل محلهما؟ أسئلة تبقى مفتوحة من دون إجابة. إن الموقف غير المستقر لقيادة عباس، وعدم الوضوح بشأن الخلافة، والتهديد بقطع المزيد من المساعدات الأميركية، يرفع من إحتمال إنهيار السلطة الفلسطينية الفعلي. ويمثل زوال السلطة الفلسطينية أكبر ضربة مادية ـ وربما قاتلة ـ لهدف حل الدولتين. بالنسبة إلى الكثيرين، ولا سيما في اليمين الإسرائيلي والأميركي، قد تبدو هذه الأمور محتملة إذا لم يتم الترحيب بنتائج تحمّل تكاليف قليلة بالنسبة إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة. لقد قام الحزب الجمهوري، الذي يسيطر حالياً على مجلسي الكونغرس والبيت الأبيض، بشطب الإشارات إلى حل الدولتين من برنامجه لعام 2016 و”رفض الفكرة الخاطئة بأن إسرائيل دولة مُحتلة”. يبدو أن التطورات الأخيرة في المنطقة تُبرر تقليل الإدارة من التطرق إلى هذه القضية. فبعد كل شيء، لم تعد القضية الفلسطينية تشكل أولوية بالنسبة إلى حلفاء واشنطن في المنطقة، ويبدو أن الصراع يشكل عائقاً أمام العلاقات الأمنية والاقتصادية بين إسرائيل والعديد من جيرانها العرب. ولكن بالنظر إلى تاريخ الصراع الذي يبلغ عمره قرناً، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الأمور ستبقى كما هي إلى أجل غير مسمى.
في الواقع، ستكون لزوال حلّ الدولتين آثار بعيدة المدى – وليس فقط بالنسبة إلى الفلسطينيين. لقد ساعدت عملية أوسلو على الحفاظ على الوضع الراهن الغامض لدولة واحدة أو لدولتين. ولكن من دون وجود دولة مستقلة، فإن محور التطلعات السياسية الفلسطينية سوف يتحرك حتماً نحو المطالبة بحقوق المواطنة المتساوية لجميع الناس الذين يعيشون الآن تحت الحكم الإسرائيلي. هذا التحوّل يحدث بالفعل بين الفلسطينيين الأصغر سناً، الذين يرى الكثيرون منهم الآن المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والعقوبات ضد إسرائيل بإعتبارها أضمن وسيلة لتحقيق حقوقهم.
كما أن إحتمال بقاء سيطرة إسرائيل غير المحدودة على ملايين الفلسطينيين عديمي الجنسية في الوقت الذي تحرمهم فيه من المواطنة وغيرها من الحقوق الأساسية سوف تشكل معضلة للسياسيين الأميركيين، خصوصاً في الدوائر الليبرالية، حيث كان الدعم لإسرائيل تقليدياً قوياً لكن بدأ يظهر علامات إنخفاض. وقد حذر وزير الخارجية السابق جون كيري، المؤيد القوي لإسرائيل، من أنه من دون حل الدولتين، تخاطر إسرائيل بأن تصبح “دولة فصل عنصري”. في خطابه الودّي، لخّص كيري المأزق الذي يواجه البلدين: “كيف تستطيع إسرائيل مصالحة إحتلال دائم بمُثُلها الديموقراطية؟ كيف تستمر الولايات المتحدة في الدفاع عن ذلك وتستطيع الإرتقاء إلى قيمها الديموقراطية؟ لم يقدم أحد على الإطلاق إجابات جيدة عن هذه الأسئلة لأنه لا يوجد أي منها. “إن الاستقطاب المتزايد في الخطاب الأميركي حول النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني قد لا يوفر إجابات جاهزة، ولكنه قد يشكل أساساً لنقاش خيوي – طال إنتظاره.

• خالد الجندي زميل في مركز سياسة الشرق الأوسط في بروكينغز وعضو مؤسس في الجمعية المصرية الأميركية لسيادة القانون. عمل سابقاً مستشاراً للقيادة الفلسطينية في رام الله في مفاوضات الوضع الدائم مع إسرائيل من 2004 إلى 2009، وكان مشاركاً رئيسياً في مفاوضات أنابوليس التي جرت خلال العام 2008.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى