حياةُ العربية أَنها لُغة إِبداع

بقلم هنري زغيب*

بعد اللقاءات الستة لــ”شهر اللغة الأُمّ” في “مركز التراث اللبناني” لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU)، خرجتُ بحصيلةٍ ذاتِ فوائدَ جمةٍ تُغْني مفهومَنا اللغةَ، وإِنما ذات شوائبَ تصيب إستخدامَها كتابيًّا وشفويَّا أَتوقَّف عند ثلاث منها:
1) إعتناق مبدأَ “أُكتُب كما تلفِظ”. وهو خطيرٌ بـسطحية إستعمالاته، لأَن لفظ الكلمة ليس دائمًا مُطابقًا صورةَ كتابتها. فإبنُ الشمال اللبناني يلفِظ “جبرُون خليل جبرُون” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة “جبران”. وإبنُ زحلة يلفِظ “بَدَّكْشْ تْروح” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة: “ما بدَّكْ”. وإبنُ كسروان يلفِظ “تمسال” وهذا لا يعني أَن أَكتبَها هكذا بل بصورتها الصحيحة “تمثال”. ومعظمُ الناس يلفِظون “استـئْـلال” أَو “أَلْـبـي” وهذا لا يعني أَن أَكتبَهُما هكذا بل بصورتهما الصحيحة “إستقلال” و”قلبـي”. إِذًا، فلنكتُب الكلمة بصورتها الصحيحة أَيًّا تكُن طريقةُ لفْظها. ومن يتحجَّجون بمبدأ سعيد عقل “أُكتُب كما تَلفِظ” فهو قد ينطبق على إستخدام الحرف اللاتيني للَّفظ العربي ولا ينطبق مطلقًا على الكتابة بالحرف العربي. ولهذا شرْحٌ منطقيٌّ يطول، لا فسحةَ للتبسُّط به هنا.
2) إستخدام اللغة وسيلةً فقط لا وظيفة، مع أَن وظيفيّتها هي التخاطُب بعقل منَظَّم. الوسيلة متحوِّلة ويمكن تغييرُها إِلى أُخرى، بينما الوظيفة هادفة لا يُمكن تغييرُها وإِلَّا وقَع الخَطَل الـمُرعب. وما يؤْذي في إعتبار اللغةِ وسيلةً فقط: ذاك الخليطُ الهجين في التلفُّظ بكلماتٍ مستعارةٍ من لغات عدة في العبارة الواحدة. وهذا ينطبق على الملفوظ لا المكتوب، ما يعني الإستهانة بالمحكيّ الملفوظ والتهيُّب أَمام الـمُدَوّن الـمكتوب. وإستبدالُ كلماتٍ من اللغة الأُمّ بسواها من لغات أُخرى يدلُّ على مَرَض ذهنيّ وكسَل منطقيّ وتباطُؤٍ عقليّ بإِيجاد الكلمة الصحيحة في اللغة الصحيحة. بلى: اللغة وظيفةٌ في ذاتها، وصقْلُ هذه الوظيفة يُـبقي العقل ناشطًا بـإِيقاعه السليم. وإندثار اللغة المحكية يؤَذِّن بإنهيارِها فزَوالِـها وسْطَ بابل اللهجات الـمتعددة حتى ضمن المجتمع الواحد.
3) القناعة بأَن اللغة غير المُستَعمَلَة تموت. وهذا صحيح، إِنما لا ينطبق أَبدًا على العربية وثقافتها وجذورها، لأَنها لا تزال في الإستعمال اليوميّ كتابةً إاستخدامًا رسميًّا وتأْليفًا متواصلًا. التي تموت هي إِمّا لهجاتٌ مَـحَليَّةٌ مَـحْكيَّة لم تَعُد في التخاطُب، وإِمَّا لغاتٌ مُنقرضةٌ لم تعُد تَصدُر فيها مؤَلّفات، ولا عادت معتمَدَةً في التخاطُب الرسمي المكتوب.
الخلاصة هي الثباتُ في المنطق الراسخ: اللغة الأُم ثقافةٌ، وهي لغةُ اللسان الشفوي والتخاطُب الكتابي. وطالـما العربية ما زالت لغةَ الإِبداع، فهي حيَّةٌ ونابضة، والتصويبُ عليها بلَهَجاتٍ مَـحكيةٍ هجينةٍ وأَحرفٍ مستعارَة، هو عمَلٌ مِسْخٌ يؤْذي إستعمالَها لا جوهرَها، ويشوِّه مستخدميها لا هيبتَها التي هي مرآةُ المنطق والعقل والتأْليف.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، يُمكن التواصل معه على لبريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني www.henrizoghaib.com أو على صفحته على فايسبوك: www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى