بلادٌ تَحكُمُها الأساطير

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

قرأتُ في التراث الياباني من الأساطير ما أدهَشَني .. كيف سافرت النداهة إلى هناك؟ وكيف غامرت سندريللا بالسير في جزر المحيط حافية القدمين حتى وصلت إلى بلاط الإمبراطور الشاب لترتدي حذاءها هناك وتخطف قلبه ومملكته؟ يبدو أن الأساطير تتشابه في غرابتها وبُعدِها عن حياض المنطق والوعي. ويبدو أن اليابانيين القدماء لم يختلفوا كثيراً عن أجدادنا الطيبين الذين آمنوا بأنصاف الآلهة والجنّ والعين الزرقاء. ومن بين الأساطير اليابانية المُوغِلة في الحمق والغرابة، هَزَّتني أسطورة “كوشيساكي أونا”.
أونا، فتاة يابانية مُدهشة، تخلب فتنتها الأبصار، ولا تفارقها عين تراها حتى تتوارى بالحجاب. لها وجهٌ كالقمر، وعينان كالبدر، وبؤبؤان كالمحيط. أما عن تفاصيلها، فقد تحدّث اليابانيون ولا حرج. ولم يحاول من رآها أن يسألها عن سر الكمامة البيضاء التي كانت تُغطّي نصف أنفها وكامل شفتيها. لكنها كانت تبادر من يتبعها منهم بالإجابة من دون حرج.
فما أن يخلو لها الطريق بالمعجب الولهان، حتى تنزع الكمامة عن وجهها، فتتغيّر ملامح المأسوف على وعيه، ويرتدّ بصره خاسئاً وهو حسير. فإبتسامة كوشيساكي تظهر طقم أسنانها بالكامل، وشفتاها تمتدّان من الأذن إلى الأذن. لكن قبل أن ينكص المريد على عقبيه عائداً من حيث أتى، تسأله الحسناء البشعة: هل تراني جميلة؟
فإذا أجاب البائس بأنها جميلة، أخرجت سكينها المعقوف وشقت فمه من الشحمة إلى الشحمة، لتتركه يبحث في الخرائب عن قناع يُجمّل به فمه أو يستر به أضراسه البادية أو يمسح فيه الدم المُتدَفِّق كالشلال فوق ثيابه. أما إن تطاول، وقال بأنها دميمة، وأنه أخطأ حين غافل رفاقه وتبعها، عندها يجد ما لا يسرّه، إذ تخرج الفاتنة البشعة من بين ثيابها سيفاً بتّاراً، وتقطف رأسه، ثم تنزع شعره وتحمله في كيس معها. أما إذا حاول الهرب، عاجلته بضربة تشق قفصه الصدري إلى سلتين. يبقى أن تُراوغ، فتصفها بأنها بين بين .. لا هي فاتنة للغاية ولا بشعة جداً. حينها قد تترك لك الفاتنة القاتلة من الوقت ما يسمح لك بالإستدارة والفرار.
يُقال أن كوشيساكي الجميلة قد تزوّجت ذات غباء من أمير غيور. وأن الرجل كان يتّهمها كلما رأى نظرات الإعجاب في عيون الرجال حوله. فقرر – رغم هيامه بها – أن يشوّه معالم حسنها وأن يشق نفقاً في وجهها الوضيء. وأنها هربت من قصره بعدها، وصارت تهيم على وجهها في شوارع اليابان لتنتقم من كل الرجال الذين لم يرحموا ضعفها ولم يرقبوا في حسنها إلا ولا ذمة.
الأسئلة في اليابان أشد جهامة من الأسئلة في بلاد العالم الثالث، والإجابة محصورة دوما بين شفرتين. والجلاد يقف بالمرصاد عند كل صندوق إقتراع. إما أن تُنافق كوشيساكي، فتصفها بما ليس فيها، فتفرّ بوجه غير الذي أتيت به، وتحتفظ بكامل أعضائك، لتمارس حياة بشعة بوجه رديء. وإما أن تواجهها بما لا تحب، وترفض أن تضع إصبعك في حبر التأييد المطلق لحسنها غير المكتمل، فتفقد فروة رأسك. أو تحاول الفرار من دون جدوى من قدرٍ يتربص بك عند كل ناصية.
هل كان اليابانيون القدماء يُجيدون الوقوف عند منتصف العصا، ولا يغادرون المنطقة الرمادية عند كل إجابة حتى يتمكنوا من البقاء فوق صفيح الأسئلة اللاهبة أطول فترة ممكنة؟ أم أنهم كانوا يبالغون في التطرف المقيت، فجاءت الأسطورة لتُعلِّمهم سياسة التوسط للبقاء فوق رصيف وطن لا يقبل التطرف هنا أو التطرف هناك؟
الأساطير تطرح الأسئلة أكثر مما تُجيب. ولا تكذب ككتب التاريخ والسياسة. ولا تفسدها الإسرائيليات ككتب السيرة. بل هي محصلة جهد جمعي يسير بالشعوب في الفلوات بحثاً عن خلاص. وهي تستبيح الرمز حيث تصعب المباشرة، وتفضّل الإلتواء عندما تستحيل الإستقامة. لهذا، أُطالب علماء الإجتماع بإعادة تشريح الأساطير لكتابة تاريخنا البشري الذي يحمل همّاً كونياً مُشتركاً بصورة لا تجامل.

• عبد الرازق أحمد الشاعر، هو أديب، كاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى