كيف ترعى الدولة السعودية إصدار الفتاوى لمنع الإصلاح السياسي!

تتلاعب الدولة السعودية بالخطاب الديني لإضفاء شرعية على سلطتها وتقويض الأصوات المستقلة التي قد تمارس ضغوطاً على الدولة من أجل الإصلاح السياسي.

صالح الفوزان: حذّر من قيادة المرأة للسيارة

بقلم عبدالله العودة*

في 21 آذار (مارس) الفائت، أُخلِي سبيل الناشط مصطفى الحسن، بعد إعتقاله بشكل تَعَسُّفي منذ أيلول (سبتمبر) 2017 إلى جانب العديد من المفكّرين والشخصيات العامة الذين طالبوا بالإصلاح الديني والسياسي. ويبدو أن التوقيفات كانت تستهدف الأصوات الدينية المُعتدلة التي تبنّت التغيير الديموقراطي والتي هدّدت بإنهاء إحتكار الدولة للخطاب الديني، وهو إحتكارٌ ترسّخ مع إصدار الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز آل سعود مرسوماً ملكياً في العام 2010 قضى بجعل هيئة كبار العلماء التي تحظى برعاية الدولة، الهيئة الوحيدة المخوَّلة بإصدار الفتاوى العامة. وهكذا، عبر إحتكار إصدار الفتاوى، ألغت الدولة – التي أرادت ظاهرياً حماية المجتمع السعودي من الفقهاء المتطرّفين أو غير المؤهّلين – “سوق الفتاوى الحرة” التي كانت تقدّم تفسيراتٍ متعددة وتترك للمواطنين تقييم كل فتوى منها وشرعيتها.
كذلك دشّن مرسوم 2010 هذه المرحلة الراهنة من سياسة الفتاوى المُعتَمدة من قبل الدولة السعودية، عبر فرض قيود على مضمون الفتاوى الصادرة عن الهيئة، وإملاء هذا المضمون بما يُساهم في تعزيز الأهداف التي تتوخّاها الدولة. وكان هذا الإحتكار للفتاوى واضحاً بشكل خاص في ردّ الفعل على مطالبة مناصري حقوق المرأة بحرية الحركة، وعلى حملة “إختيار لا إجبار” دعماً لحق المرأة في قيادة السيارة. فبعد الجهود التي بذلها نشطاء سعوديون على إمتداد عقود، منحَ أمرٌ ملكي، في 26 أيلول (سبتمبر) 2017، المرأة حق القيادة. كانت العبارات التي صيغ بها المرسوم لافتة جداً: “نشير إلى ما رآه أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء بشأن قيادة المرأة للمركبة من أن الحكم الشرعي في ذلك هو من حيث الأصل الإباحة”. يُشير المرسوم إلى فتوى غير منشورة أعدّتها هيئة كبار العلماء من أجل الغاية الواضحة المتمثّلة بمنح المرسوم أساساً قانونياً يُجيز للمرأة قيادة السيارة.
لا تجسّد هذه الفتوى غير المنشورة تغييراً صادقاً ومفاجئاً في الآراء، بل تُظهر تلاعب الدولة الفاضح بالمؤسسات الدينية. فعلى إمتداد أكثر من ثلاثين عاماً، حذّرت الفتاوى الصادرة، برعاية الدولة، عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وهي لجنة فرعية تابعة لهيئة كبار العلماء – حذّرت حينئذٍ النساء من مغبّة قيادة السيارات، أو الإختلاط مع الرجال، أو الكشف عن وجوههن. ولم يكتفِ صالح الفوزان، وهو عضو نافذ في هيئة كبار العلماء، بالتحذير من قيادة المرأة للسيارة، بل حذّر أيضاً من مغبة قيادة النساء للدراجات النارية، وأشار رئيس هيئة كبار العلماء، عبد العزيز آل الشيخ، إلى أن مساوئ قيادة المرأة للسيارة تفوق بمراحل إيجابياتها. وقد تمكّنت الدولة تحديداً من تخطّي المعارضة الشديدة لقيادة المرأة للسيارة عبر توليد الإنطباع بأن هؤلاء العلماء بدّلوا رأيهم فعلاً، ولم يسيروا خلف موقف الدولة المتغيِّر. وقد حرص المرسوم على عدم الإشارة إلى الفاعلين غير الحكوميين، والأهم من ذلك، عدم نَسب الفضل إلى النشطاء المدنيين والنسويين الذين ناضلوا طوال عقود من أجل حقوق المرأة. ومن خلال الإشارة إلى هيئة كبار العلماء والفتوى الصادرة عنها، أضفت الدولة شرعية دينية أكبر على المرسوم، وقدّمت التغيير بأنه بادرة سخاء ملكية (مكرمة).
في حالات أخرى، تتقبل الدولة أي فتاوى غريبة أو متشددة صادرة عن الهيئة لأنها تعتمد على كبار العلماء من أجل الحصول على الشرعية. في العام 2017، أصدر مفتي السعودية أكثر من ثماني فتاوى وبيانات حذّر فيها من مغبّة عصيان الحاكم الشرعي (أي الملك)، وتحدّث عن فضائل الولاء للحاكم الراهن – ما ساهم بصورة مطّردة في تعزيز السلطة الدينية للنظام الملكي.
وفي فتوى صادرة في آذار (مارس) 2016، قال مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ إن المؤمن ملزَم بأن يحبّ الحاكم ويدافع عنه، ويمتنع عن إهانته. جميع الفتاوى والبيانات الصادرة يُمكن إستعمالها بأوجه متعدّدة، وقادرة على التكيّف مع التغييرات في الهرم السياسي. فعندما عُيِّن الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد في آذار (مارس) 2014، كانت إطاعة الحاكم تعني التعهّد بالولاء له، لكن إعتباراً من كانون الثاني (يناير) 2015، باتت هذه الطاعة تعني التعهد بالولاء للأمير محمد بن نايف بصفته ولياً للعهد. وإعتباراً من حزيران (يونيو) 2017، أصبح الأمير محمد بن سلمان هو المقصود من هذه الفتاوى. وعلى الرغم من هذه التغييرات السياسية خلال الأعوام القليلة الماضية، إستطاعت هيئة كبار العلماء إستخدام الآيات القرآنية والنصوص التقليدية نفسها في الفتاوى المنتظمة التي تشجّع على الولاء لولي العهد أو لأي أحد يخلفه.
لذلك يَمنع إحتكار الدولة للشريعة الإسلامية من صدور فتاوى عن المفتين المُستَقِلّين الذين يدعون إلى تفسير الإسلام بأسلوب أكثر إعتدالاً ومواءمة للديموقراطية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، أُلقي القبض على الباحث المستقل والقاضي السابق سليمان الرشودي، المؤسس المشارك لجمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية، بعد نشرة فتوى عن حق التجمّع، وعن الأسس الإسلامية لحقوق الإنسان والحريات. كذلك إعتُقِل الباحث البارز والمفتي المستقل سلمان العودة في أيلول (سبتمبر) 2017 في إطار حملة القمع واسعة النطاق التي تشنّها الدولة ضد المعارِضين. ويُعرَف العودة في شكل خاص بتوقيعه على عريضة طالبت في العام 2011 بإجراء إنتخابات، وملاحقة قضايا الفساد، وحماية الحريات المدنية، والإفراج عن السجناء المُحتَجَزين تعسّفياً ومن دون محاكمة، كما أنه ساهم في ترويج العريضة شعبياً. بيد أن هيئة كبار العلماء بذلت مجهوداً أكبر لتبرير الوضع القائم، بغض النظر عن المبادئ الدينية. وغالباً ما كان دور الهيئة نقل رسائل الدولة في شكل فتاوى كلاسيكية، مثلاً بهدف حظر التظاهرات العامة و”الأحزاب السياسية المنحرفة” والتحذير منها كما في العام 2017،. بيد أن إستخدام الدولة المتزايد للهيئة كأداة في يدها يتسبّب بإضعاف دور الهيئة وشرعيتها.
لو كان هدف الهيئة الحقيقي الحدّ من صدور فتاوى مُتشدّدة أو غير سليمة فقهياً، لكان يجدر بها أن تبدأ مع أحد أعضائها البارزين، صالح اللُحَيدان، الذي إشتهر بإصداره فتوى في العام 2008 دعا فيها إلى إنزال عقوبة الإعدام بمالكي القنوات التلفزيونية التي “تُفسِد المجتمع السعودي”. وفي العام 2017، أعلن زميله في الهيئة صالح الفوزان أن كل من يشكّك في أن الشيعة كفّار هو نفسه كافر. وفي فتوى أشد غرابة، إدّعى الفوزان، في العام 2014، أن”البوفيه المفتوح” مُحرَّم في الإسلام. وبما أن الدولة تعوِّل على مثل هذه الشخصيات الدينية وعلى خطابها لإضفاء شرعية على سلطتها، تقبل بهذا التشدّد طالما أنه لا يُهدّد بتقويض الولاء للحاكم. وهكذا فإن معركة الدولة ضد الفتاوى غير الصادرة عن جهات تابعة لها ليس الهدف منها مكافحة التطرف بقدر ما هو كبح الأصوات الإصلاحية المستقلة التي قد تمارس ضغوطاً على الدولة لتطبيق الإصلاح السياسي وتوسيع مساحة الحريات الفردية.
قد ينجح إحكام الخناق على الخطاب الإسلامي المُعتدل والمُستقل، في إسكات الأصوات الديموقراطية داخل الإسلام في السعودية، لكنه سيولّد أيضاً فراغاً يتقدّم لملئه الخطاب الأقل إعتدالاً الذي أظهرت الدولة تقبّلاً له.

• عبدالله العودة باحث سعودي وزميل ما بعد الدكتوراه في القانون والحضارة الإسلامية في كلية الحقوق في جامعة ييل، ونجل الشيخ السعودي سلمان العودة. لمتابعته عبر تويتر: aalodah@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى