أكراد سوريا إلى أين؟

الإصطفافات الإقليميّة والدوليّة الحادّة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط عامّة، وسوريا بشكلٍ خاصّ، وَضَعَت الأكراد السوريين على مفترق طُرُق، في موقفٍ يُعيدُ إلى الأذهان إتفاقيّة سايكس بيكو، ومعاهدتي سيفر، ولوزان.

المجلس الوطني الكردي في سوريا: ضد الإنفصال

آلان حسن*

كما في كلِّ مفصلٍ إستثنائيّ، يكثر الحديث عن مدى أصالة إنتماء الأكراد للبلدان التي يقطنون فيها، وهل لديهم مشاريع إنفصاليّة. ففي الحالة السوريّة مثلاً يكون السؤال المطروح بقوّة: الكُرد في سوريا، هل هُم كُرد سوريون، أم كُردستانيون؟
وقد يشكّل هذا التساؤل هاجساً لدى الدول المجاورة لسوريا التي لديها القضيّة “المشكلة” عينها، وأعني بذلك كُل من العراق، تركيا، وإيران.
إن القضيّة الكُرديّة تشكّل أرضيّة إتفاق مشترك بين تلك الدّول، رغم الخلافات السياسيّة والإثنيّة والعَقَائديّة بينها، ونَجد في إقليم كُردستان العراق خير مثال على ذلك، فالدّول الأربع إتّفقت على رَفض الإستفتاء الذي أُجْرِيَ في أواخر العام الفائت، وبالتالي منع قيام دولة كُرديّة، في الوقت الذي أعادت القوات العراقيّة، بمشاركة قوات “الحشد الشعبيّ” المدعومة إيرانيّاً، سيطرتها على مدينة كركوك الغنيّة بالنفط، وعلى جميع المناطق المتنازع عليها بين بغداد وإربيل.
في سوريا تُعتبر “حركة المجتمع الديموقراطيّ” إحدى أهم الكيانات الكُرديّة فيها، حيث تضمّ تنظيمات عسكريّة، وأمنيّة، ومجتمعيّة، وسياسيّة، منها حزب الإتحاد الديموقراطيّ، الذي يُعتبَر الأكثر فعالية في المشهد السياسيّ الكرديّ السوريّ، وكذلك “وحدات حماية الشعب” (العماد الرئيسيّ لقوّات سوريا الديموقراطيّة). وتُعْتَبَر “الحركة” إمتداداً فكريّاً لحزب العمال الكُردستانيّ (التركيّ) في سوريا، ولزعيمه عبد الله أوجلان، المسجون في جزيرة إيمرالي التركية منذ العام 1999. لديها مشروع لا مركزيّ في سوريا، بدأتْهُ بإعلان الإدارة الذاتية في مطلع العام 2014 وإتبعتْهُ بالفيديرالية المجتمعيّة، بالاشتراك مع عدد من مكوّنات المنطقة، وذلك في مقاطعات الجزيرة، والفرات، وعفرين، وتعمل في سبيل ذلك على قَضم سلطات الحكومة السورية شيئاً فشيئاً في مناطق سيطرتها.
أما الطرف السياسيّ الآخر فيقوده المجلس الوطنيّ الكُرديّ في سوريا (تحالف أُنشِئ في العام 2011 ويضمّ أحزاباً كُرديّة سوريّة عدة) وبالتحديد الحزب الديموقراطيّ الكُردستانيّ – سوريا، والذي يتلقى الدعم من سلطات إقليم كُردستان العراق، وبالتحديد من رئيسه السابق مسعود البارزاني. ويتبنّى “المجلس” قوّة عسكريّة هي “بيشمركه روج آفا” درّبتها سلطات إقليم كُردستان العراق، وشاركتْ في معارك الموصل ضد تنظيم “الدولة الإسلاميّة”.
وكانت الحكومة السوريّة تحالفتْ مع “الحركة” في بداية الحرب السوريّة في العام 2011، وسمحتْ لها بإنشاء قوّة عسكريّة (وحدات حماية الشعب) وأمنيّة (الأسايش)، وتقاسمت معها النفوذ في المناطق ذات الغالبيّة الكًرديّة.
وما لبثَت “الحركة” أنْ وسّعت نطاق سيطرتها على مناطق النفوذ المشتركة بينهما، وأصبحتْ لديها بعد معركة كوباني (عين العرب) تحالفات مستقلّة، وبالتحديد مع التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهو تحالفٌ تطوّر إلى درجة بلوغ “قوّات سوريا الديموقراطيّة” (إطار عسكريّ يضمّ وحدات حماية الشعب وفصائل عسكرية عدة أخرى) مرتبة الحليف الرئيسيّ لقوّات التحالف في معاركها ضد تنظيم “الدولة الإسلاميّة”، والذي حقّق إنتصارات نوعية تمثّلت بالسّيطرة على منبج، والرقة، وتل أبيض، وجزء من دير الزور مستكملة السيطرة على كامل شرق الفرات، وهو ما إعتُبِرَ ضمن منطقة النفوذ الأميركيّ، مقابل سيطرة الجيش السوريّ وحلفائه على غرب الفرات.
وترى الحكومة السورية أنّ “حليفها” الكُردي يقيم – شيئاً فشيئاً – كياناً مستقلاً قد لا ينتهي طموحه إلا بالإنفصال. وقد تجلّت خلافات الطرفين في إشتباكات بين الجيش السوري و”وحدات حماية الشعب” في كلٍّ من مدينتي القامشلي والحسكة، إستخدمت فيها الحكومة السورية سلاح الطيران لأول مرة، في إشارة إلى عمق الخلاف بينهما. وأدّى هذا الأمر إلى “تحالف الضرورة” الذي حصل أخيراً بين الحكومتين السورية والتركية في مسعى مشترك – وبرعاية روسية إيرانية – لمنع قيام إقليم كًردي على الشريط الحدودي بين البلدين.
من ناحية أخرى، بعدما كانت طموحات الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان تتمثل في شرق أوسط جديد بشعارات علمانية، وطابع إخواني حداثي، أصبحت حكومته تنكفئ على نفسها، حيث إضطرت إلى الدفاع عن حدودها، لمواجهة الخطر الكرديّ المتمثل بفيديراليّة شمال سوريا بقيادة “حزب الإتحاد الديموقراطيّ” المرتبط فكرياً بحزب العمّال الكردستانيّ، والذي يخوض صراعاً مسلّحاً مع الجيش التركيّ منذ ثمانينات القرن الفائت، ودخول الولايات المتحدة الأميركيّة في تحالف مع “قوات سوريا الديموقراطيّة” (الذراع العسكريّة للفيديراليّة) والتخوّف من مشروع تقسيمي أميركيّ يكون الكُرد فيها رأس حربتها، وهو ما يشكل خطراً على الأمن القوميّ التركي.
وحيال ذلك فقد دخلت القوات التركيّة في العام الماضي، بالتعاون مع حلفائها من المعارضة السورية، إلى مناطق جرابلس والباب في مسعىً لفصل مقاطعتي عين العرب وعفرين، بالإضافة إلى تدخلها المباشر، وبالتعاون مع عدد من فصائل المعارضة السورية في مدينة عفرين، الأمر الذي يمنع قيام الفيديرالية الكردية، ويمنع وصولها إلى منفذ بحري يخلق منها كياناً قابلاً للحياة.
أمّا إيران فقد تحالفت، وحليفتها الحكومة السوريّة بشكلٍ تكتيكيّ مع “حزب الإتّحاد الديموقراطيّ”، وذراعه العسكريّة “وحدات حماية الشعب” (الكرديّة) في بدايات الأزمة السوريّة، وأخذَ هذا التحالف ينكمش تدريجاً بعد معارك إستعادة السيطرة على مدينة كوباني/عين العرب، وإمتناع حلفاء الأمس عن مساندة “الوحدات” لإسترجاع المدينة، ما اضطرّها إلى الإستعانة بالولايات المتحدة الأميركيّة، وهو ما شكّل بداية التحالف بينهما.
إن إيران التي شاركت بكل ثِقَلِها في الحرب السوريّة، لن تقبل بحكومة معادية لها، وبالتالي ستدخل ساحة صراع أخرى مع واشنطن التي تَضَع قَطِع التواصل بين الحدود العراقيّة والسوريّة هدفاً رئيسيّاً لها، وبالتالي منع خط طهران – بغداد للوصول إلى البحر المتوسط، مروراً بدمشق والضاحية الجنوبية في بيروت (المعقل الرئيسي ل”حزب الله” اللبنانيّ)، وسيكون الحليف الموضوعيّ لها في هذه الحالة هو “قوّات سوريا الديموقراطيّة”، ومن الصعوبة بمكان أنْ تقوم الأخيرة بهذه المهمة في ظل العلاقة القويّة بين “حزب العمّال الكردستانيّ” وبين إيران، من جهة عداء “الكردستانيّ” لتركيا.
إن المشروع الفيديراليّ المُعْلَن يلاقي رفضاً مشتركاً لافتاً من جهاتٍ متصارعة، ولأسبابٍ متناقضة، فَمِن المرّات القليلة التي يجتمع فيها موقف الحكومة السوريّة، ومعارضات الرياض، موسكو، والقاهرة، ومن المجلس الوطنيّ الكُرديّ. فالحكومة السوريّة والمعارضات تتّهم “المشروع” بنزوعه نحو الانفصال، ويعتبرونه مخطّطاً تقسيمياً برعاية أميركيّة.
وعلى النقيض من ذلك، فإنّ المجلس الوطنيّ الكُرديّ يَصِفِهُ بأنّه بعيدٌ كل البُعد من الحلم القوميّ الكُرديّ، ويتّهم القيّمين عليه، وخصوصاً “حركة المجتمع الديموقراطيّ”، بأنّه لا يملك مشروعاً قومياً كُردياً، ويكتفي بمشروع الأمّة الديموقراطيّة الطوباويّ، مِن وجهة نظر المجلس.
إن مصير المشروع الفيديرالي المُعْلَن، مرتبط بالتفاهمات الإقليمية والدوليّة التي تجري حول سوريا، فالولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، والإتحاد الروسي وحلفاؤه من جهة أخرى يقودان دفّة العالم، ويتقاسمان ملفّات المنطقة، ومن ضمنها الملف الكُرديّ، لذا فإن الخطوات المتّخذة بصدد قيام إقليمٍ فيديراليّ لا يمكن إعتباره أمراُ واقعاً ما لم تَكُن جزءاُ من الاتفاقات الدولية.
ربما ستنزع “حركة المجتمع الديموقراطيّ” إلى التفكير بواقعيتها السياسيّة التي إستندت إليها في نظريات زعيم حزب العمّال الكُردستانيّ عبد الله أوجلان، الذي نادى بحلّ مشاكل الشرق الأوسط ذي التعقيدات الدينيّة والمذهبيّة، من طريق مبدأ الأمّة الديموقراطيّة، والبحث عن صيغ عمليّة لإبقاء مشروعها قابلاً للحياة.
ولكن في الأزمات الكبرى تبقى لمفاوضات المراحل النهائية ظروفها وأحكامها، فإمّا أنْ نجد إقليماً كرديّاً بمباركة دوليّة، أو سيكون هناك “لوزان” أخرى.. بشروط أخرى.

• آلان حسن كاتب وصحافي سوريّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى