قمة الإنسانية

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في الغوطة الشرقية، لم يعد الموت مصيبة، لأن الحياة هناك لم تعد كالحياة. والناجون من براميل الموت الطائرة على أعتاب المدينة الأم ليسوا أفضل حظاً ممن سبقهم إلى أي مصير، لأنها “الجحيم فوق الأرض” بإعتراف سيّد الأمم المتحدة.
خمسمئة قتيل حصيلة زهيدة لمن لا يكترثون بالأعضاء المبتورة والجثث المُشوَّهة لأسبوع واحد من القصف المُمَنهَج فوق مدينة تموت فوق خارطة بليدة. لكن من يستطيع أن يكذب إحصائيات سيّد الرعب المُقدّس الذي أتى بالمُفسِدين من مغارب الأرض ومشارقها ليقيموا وليمةً للموت في وطن أقسم أن يحميه ذات توريث؟ ومن يستطيع أن يُميِّز لون الدماء هناك غيره؟
لا عزاء لثلاثمئة وثلاثة وتسعين ألف نفس تلبس طاقية الإخفاء كلما سقط برميل أو تفجَّر. فكلهم في عرف نظام فاشي عنصري بغيض متمردون وممولون ومصاصو دماء أتوا من كل البقاع لهدم الوطن. أما الطائرات التي تدك المشافي والمدارس والبيوت وتسبح في ملكوته العريض بإسمه البغيض مجرد حمامات زغب ترش القمح وتوسع السنابل!
الموت هو القاسم المشترك الأوحد لمن يعيشون فوق خارطة الشام الممزقة. والدماء التي كانت ذات لون واحد قبل أن تُفرّقها الجماعات والبيارق وتصاميم الطائرات تحمل الرائحة نفسها واللزوجة عينها والملامح ذاتها. لكن سيّد الممانعة يؤكد انه يستطيع التمييز بين العروق والأنفاس والنوايا، ويرش ملح الطائرات المُقدس فوق حدوده المُستباحة مع بعض البخور والتوابل والعطور.
لكن عدد أطفال القصف المقدس والذي تجاوز المئة والعشرين في غضون أسبوع واحد ليس كافياً لتكذيب إدعاءات النظام المُستفزّة بأنه لا يستهدف سوى الإرهابيين. وكلّنا نعلم يقيناً أن الرجل ليس سيّد قراره، وأن الطائرات الروسية في الأجواء والميليشيات الإيرانية في الأنحاء تملك مفاتيح الحرب كما تملك أميركا مفاتيح السلام، وأنه لا حول له ولا إرادة.
من يحمي رُضّع سوريا من “فيلق الرحمن” و”جيش الإسلام” و”جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية” وطائرات روسيا وفيالق الحرس الثوري ومقاتلي “حزب الله”؟ ومن يُوقف الطائرات الإسرائيلية التي دمّرت أكثر من نصف منصّات الصواريخ السورية عن التجوّل في الفضاء الدمشقي ليل نهار؟ ومن يُوقظ في العرب نخوة كانت بعافية في الماضي القريب؟ ربما تحتاج سوريا إلى معجزة لتغيّر خارطة ألمها المُقيم، وربما نحتاج نحن إلى يقينٍ لا يجعل الدنيا أكبر همّنا.
أكثر من مئتين وخمسين قتيلاً في أقل من يومين، بمعدل خمس أرواح في كل ساعة لا تشفي غليل القادمين من كافة الحدود ليشهدوا منافع لهم. ولا تكفي إستغاثات ثلاثمئة وثلاثة وتسعين ألف حي تحت القصف لإيقاظ ضميرنا العربي القديم. جريمتان ضد الإنسانية … إنسانية تبحث عَمَّن يوقظها في الشام، وأخرى تبحث عَمَّن يُحييها في قلوبنا.

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى