هل وصل البشير أخيراً إلى لحظة الحقيقة والحساب في السودان؟

يواجه السودان أزمة إقتصادية وإجتماعية عميقة خصوصاً بعد رفع الدعم عن القمح ومنع إستيراده، والتعويم الجزئي للجنيه السوداني الأمر الذي أدّى إلى رفع أسعار الخبز والدولار وسبّب إحتجاجات شعبية في مدن عدة.

الإحتجاجات ضد رفع الدعم عن الخبز: قمعها رجال الأمن بالقوة

بقلم ريتشارد داوني*

تَعَوَّد شعب السودان على التقلّب، ولكن حتى بالنسبة إليه، فإن اللحظة الراهنة محفوفة بعدم اليقين. لقد أدّى التقارب بين الإحتجاجات الإجتماعية، الإقتصادية والديبلوماسية إلى إرسال البلاد السمراء إلى حالة من القلق وإجهاد المجتمع وزيادة إحتمال حدوث إضطرابات محلية جديدة.
في 16 و17 كانون الثاني (يناير) خرج متظاهرون في مدن عدة من دارفور غرباً إلى بور سودان في الشرق إلى الشوارع غاضبين من إرتفاع أسعار السلع الأساسية. ووجهوا اللوم الى حكومة الرئيس عمر البشير لسوء الادارة الإقتصادية والفساد. ويصل معدل التضخم في السودان إلى أكثر من 30 في المئة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الإنهاء المفاجئ لدعم القمح في كانون الأول (ديسمبر)، مُقترناً بفرض حظر على واردات القمح، أدى إلى مضاعفة سعر الخبز بين عشية وضحاها. وشكّلت تدابير التقشف جزءاً من موازنة العام 2018 التي خصصت 75 في المئة من الأموال للأمن، في حين أن النُظُم الصحية والتعليمية المُهمَلة في البلاد تترنح على حافة الإنهيار. من جهتها قدمت الأجهزة الأمنية دفاعاً قوياً بعد تخصيصها السخي من خلال قمع وضرب المتظاهرين المسالمين اللاعنفيين في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن. وتمّ إحتجاز سياسيين معارضين وصحافيين ومئات عدة من المتظاهرين، والإستيلاء على ست مطبوعات صحافية تُغطّي الاحتجاجات.
بعد عقود من سوء التصرف الاقتصادي في السودان، يبدو أن لحظة الحساب والحقيقة تقترب. فقد أعلن بنك السودان المركزي، تحت ضغطٍ من صندوق النقد الدولي لإجراء إصلاحات إقتصادية، عن تعويمٍ جزئي للعملة في 19 كانون الثاني (يناير) الفائت. وكان الهدف من هذه الخطوة هو سد الفجوة الواسعة في أسواق العملات بين سعر الصرف الرسمي والآخر الأكثر دقة في السوق السوداء. وبدلاً، إستمرت قيمة الجنيه السوداني في الهبوط، وإقترب سعره رسمياً من 40 جنيهاً للدولار، مقابل 28 جنيهاً في بداية الشهر. إن العملة الأجنبية نادرة؛ وإنتاج المصانع يتباطأ في مواجهة إرتفاع تكاليف التشغيل؛ والمعروض من السلع الأساسية يتناقص بإستمرار؛ ومحلات تجارية كثيرة قد أغلقت. كما أقفلت الصيدليات في الخرطوم أبوابها لأن الرقابة الحكومية على الأسعار تدفعها إلى بيع الأدوية بأقل من تكلفة إستيرادها.
من ناحية أخرى، لم يتكيّف السودان بعد مع فقدان 75٪ من إنتاجه النفطي عندما أصبح جنوب السودان مستقلاً في العام 2011. كانت هناك آمال في أن يساعد إستخراج الذهب في سد الفجوة في الإيرادات، ولكن مستويات عالية من التهريب وفساد النخب وضعف الرقابة على القطاع أدت إلى عدم شعور الناس العاديين بأي فائدة.
وبينما تتفاقم المشاكل الداخلية، يواجه السودان أيضاً أكبر أزمة دولية منذ فقدان جنوب السودان. لقد زَجَّت نفسها في مواجهات مع جارتها الشمالية مصر، التي أعربت عن قلقها ازاء التصريحات الديبلوماسية الاخيرة التي أعلنتها الخرطوم والتي شملت إستضافة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في كانون الاول (ديسمبر) والسماح لتركيا بإعادة بناء سواكن – جزيرة عثمانية سابقة متداعية على البحر الأحمر – وتطوير منشأة بحرية عسكرية فيها. وقد تم إستدعاء سفير السودان لدى القاهرة لإجراء مشاورات فيما هبّت في وسائل الإعلام المصرية عاصفة غاضبة من التعليقات ضد السودان. وقيل إن القوات المصرية قامت بمناورات في قاعدة في إريتريا، الجارة الشرقية للسودان. وقد رد السودان على هذا الأمر بإرساله إلى الحدود الإريترية مجموعة من قوات الدعم السريع، وهي المنظمة التي خلفت ميليشيا الجنجاويد التي شنت حرباً في دارفور.
وتلعب هذه المواجهة على مخاوف مصرية أوسع حول علاقات السودان الأوثق مع إثيوبيا التي تواصل بناء سدّ عملاق على النيل الأزرق تزعم القاهرة أنه يهدد تدفق المياه إلى جزئها من النهر. كما أن تقارب السودان مع تركيا يجعله أقرب إلى محور إقليمي ناشئ بين تركيا وقطر وإيران في وقت تحالَف فيه رسمياً سابقاً مع التحالف بقيادة السعودية الذي يشن حرباً ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. الواقع أن السودان يسير على حبل ديبلوماسي مشدود، والمخاطر تبدو مرتفعة جداً. إن دول الخليج هي مصدرٌ حاسم للدعم المالي للنظام في الخرطوم الذي يفتقر إلى مانحين ومتبرعين وفاعلي خير.
إضافة الى الصداع الديبلوماسي في السودان، إنتشرت شائعات حول العاصمة في الشهر الفائت بأن وزير الخارجية ابراهيم غندور قدم إستقالته، مُعرِباً عن خيبة امله من تقويض عمله من قبل مستشارين غير مسؤولين للبشير. وذكرت التقارير المحلية بأنه إقتنع وقبل البقاء فى منصبه عقب تدخل رئيس الوزراء بكري حسن صالح.
على الرغم من هذا الإلتقاء المُزعِج للأزمات المحلية والدولية، فإن حكومة البشير ستبقى كما هي: مُتعنّتة ومُترسّخة. وتُساعد قضيتها أحزاب سياسية معارضة ومجموعات مسلحة مُنقَسمة داخلياً، فشلت في تعزيز رؤية بديلة قابلة للتحقيق للبلد. من جهتهم يجد المتظاهرون في الشارع صوتهم، لكنهم يواجَهون بشراسة من قبل جهاز أمن الدولة. إن الذكريات ما زالت ماثلة للإحتجاجات المعارضة للتقشف في أيلول (سبتمبر) 2013 التي أُخمِدَت عندما أُطلق النار بالرصاص الحي على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 200 شخص. إن الظروف الإقتصادية تضر بالفقراء ولكنها لم تُلحق الألم عينه بالطبقة الوسطى، التي كانت تاريخياً تقود التغيير السياسي في السودان.
في الوقت نفسه، فإن الشباب، الذين يشكلون أكثر من نصف سكان السودان البالغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة، لا يهدأون. فكثيرون منهم هجروا السياسة الرسمية، جرّاء تعبهم من مواكبة وجوه المسنين في كلٍّ من الحكومة والمعارضة. وهناك عدد قليل منهم على إستعداد للإلتزام بإسقاط النظام، وهو طريق تتبنّاه جماعات مسلحة في دارفور وفي المناطق المنكوبة بالصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والمعروفة بإسم المنطقتين. وبدلاً من ذلك، يتّخذ البعض نهجاً أطول أجَلاً، حيث يركّز طاقاته على مبادرات شعبية لتطوير الجيل المقبل من القادة. وآخرون لا يزالون يتوجهون إلى الخارج إلى العدد المتضائل من البلدان، ولا سيما في الخليج، التي لا زالت على إستعداد للترحيب بهم.
من جهتها كانت الولايات المتحدة بعيدة وعلى هامش السودان منذ أكثر من عقدين، لكن في العام الماضي إتخذت أول خطوات مبدئية للعودة الى هذه البيئة التي لا يمكن التنبؤ بها من خلال إزالة بعض العقوبات الإقتصادية والتجارية المفروضة على نظام البشير. إلّا أن تحرّك واشنطن لم يُؤدِّ بعد إلى حدوث ذوبان في العلاقات، جرّاء عدم الثقة المتبادلة المتأصّلة. وبالنسبة إلى الخرطوم فإن النقطة الرئيسية هي وجودها على قائمة الدول الراعية للإرهاب الأميركية، مما يمنعها من الوصول إلى تخفيف الديون الدولية والمساعدة الإنمائية الأميركية.
ويقول السودان إن هذا التصنيف لم يعد له ما يبرره لأنه يعود إلى إستضافته أسامة بن لادن في أوائل تسعينات القرن الفائت، ويشير إلى شراكة قوية لمكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة منذ ذلك الحين، وهو ما تعترف به وزارة الدفاع (البنتاغون). وكان رد واشنطن على أن السودان يجب أن يُعطي أكثر قبل أن يُمكنه تطبيع العلاقات. وتقوم وزارة الخارجية الأميركية بصياغة مجموعة جديدة من المعايير لقياس التقدم الذي قد يشمل حماية الحريات الدينية والحفاظ على التعاون في القضايا الأمنية الإقليمية والدولية.
وفيما تتقدم المفاوضات قُدُماً، فإن الديبلوماسيين ورجال الأعمال والعاملين في مجال التنمية الأميركيين لا يزالون محظورين وممنوعين إلى حد كبير من زيارة السودان. وغيابهم يخلق فرصاً لجهات فاعلة أخرى، مثل الصين وتركيا والمملكة العربية السعودية، للتأثير في القيادة في الخرطوم في لحظة محورية يسودها عدم القدرة على التنبؤ.

• ريتشارد داوني هو نائب مدير برنامج إفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.
• كُتِبَ هذا الموضوع بالإنكليزية وعَرَّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى