كيف عقّدت الأزمة بين قطر وجيرانها التعاون بين دول الخليج والمغرب العربي

فيما تعمد بلدان المغرب العربي والخليج إلى زيادة التعاون الأمني بينها، يفتقر هذا التعاون إلى تفاهم إستراتيجي طويل المدى.

الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأمير قطر الشيخ تميم: الجزائر تميل إلى الدوحة على حساب السعودية والإمارات

بقلم جاك روسيلييه*

في 22 كانون الأول (ديسمبر) الفائت فرضت الإمارات العربية المتحدة حظراً على سفر التونسيات دون سن الثلاثين على متن الرحلات التابعة لشركة طيران الإمارات، وذلك لأسباب أمنية كما أُشيع في حينه. وتُرجِّع هذه الخطوة صدى الغضب الإماراتي من الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس إلى الدوحة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما نشرت وسائل الإعلام القطرية صورة مُركَّبة ومُزيّفة للعاهل المغربي يحمل لافتة كُتِب عليها: “لكم العالم ولنا [الأمير] تميم”. ويعكس هذان الحدثان العلاقات الديبلوماسية المعقَّدة بين بلاد المغرب العربي ودول مجلس التعاون الخليجي. حتى فيما بدأ الأفرقاء في الخليج يسعىون إلى إنخراط تكتيكي في بعض المسائل الأمنية في المغرب العربي، مثل الأزمة الليبية، فإن المقاربة التي يعتمدونها تبقى خاضعة لنموذج من المنافسة بين الإمارات وقطر على التأثير الأمني في شمال أفريقيا. غير أن هذا التعاون الضيّق ربما يُنبئ بتفاهم إستراتيجي مُتعَدِّد الأطراف وطويل المدى وأكثر نضوجاً بين المغرب العربي ودول الخليج.
إن العلاقات بين دول المغرب العربي والخليج كانت تُحرّكها في ما مضى هموم اقتصادية وتجارية وسياسية متباينة إلى حد كبير كانت تتسبّب أحياناً بمنافسة بين تلك الدول. بيد أن الاقتصاد المغاربي، وعلى الرغم من تميّزه بعلاقات تجارية وثيقة مع الإتحاد الأوروبي، يزداد تعقيداً وتنوّعاً مع قيام المملكة المغربية على وجه التحديد بتعزيز روابطها الاقتصادية مع القارة الأفريقية – وقد يُحاكي هذا الاقتصاد ويتشبّه بصورة متزايدة بالمساعي الإقتصادية العالمية التي تبذلها دول الخليج في المدى الطويل. على سبيل المثال، وفقاً للبنك الأفريقي للتنمية، حلّ المغرب في العام 2016، في المرتبة الخامسة بين قائمة المستثمرين في القارة الأفريقية فيما كانت الإمارات ثاني أكبر مستثمرة (والمستثمرة الأكبر في المشاريع الجديدة). كذلك، لم تعد المصالح الأمنية لبلاد المغرب العربي تكمن حصراً في الصحراء والساحل. فعلى ضوء الهجرة غير الشرعية في ليبيا، أصبح عدم الاستقرار في دول الساحل محطّ إهتمام في أوروبا، حيث أثار صعود الحركات الشعبوية مخاوف من الإرهاب – ما دفع بأوروبا (والولايات المتحدة) إلى السعي إلى تعاون أكبر مع بلدان المغرب العربي من أجل كبح تدفّق المهاجرين وتمهيد الطريق أمام تعزيز التعاون في الشؤون الأمنية الأخرى.
لكن على الرغم من الهوية العربية المشتركة، لم تُترجَم بعض المصالح والهموم المشتركة إلى روابط إستراتيجية عميقة بين المغرب العربي ودول الخليج. وأبعد من الجغرافيا، فإن الإلتقاء المعقّد بين العوامل التاريخية والثقافية والمجتمعية يجعل من الصعب تحقيق إندماج أكبر بينهما. بالنسبة إلى المغرب والجزائر على وجه الخصوص، فإن العلاقات مع الخليج أقل إستساغة أيضاً من الناحية الإستراتيجية بالمقارنة مع العلاقات مع الدول الأفريقية. واقع الحال هو أنه كانت لدول الخليج بصمة أمنية في المغرب العربي، فقد دعا مجلس التعاون الخليجي حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى التدخّل في الحرب الأهلية الليبية في العام 2011، وكانت هذه خطوة أولى نحو ممارسة تلك الدول تدخلاً أمنياً متزايداً في المغرب العربي من دون التنسيق مع الولايات المتحدة. غير أن ليبيا عالقة الآن في رحى المنافسة التي تخوضها دول الخليج في المنطقة، فقطر تدعم الحكومة المعترَف بها دولياً في طرابلس في حين أن الإمارات تدعم حكومة طبرق سياسياً، وتؤمّن الدعم العسكري للواء خليفة حفتر المناهض للإسلاميين.
على الرغم من أن الأزمة الليبية – وكذلك الخلاف بين قطر ومجلس التعاون الخليجي الذي يزيد من التعقيدات والعراقيل أمام المحاولات المغاربية للتوسّط بين الفصائل الليبية – قد أرغمت المغرب العربي ودول الخليج على السعي إلى إقامة تعاون ضيّق بينهما في هذه المسائل الإقليمية، إلا أن التنسيق بين الجانبَين مجتزأ ويأتي في إطار رد الفعل، وليس تنسيقاً إستراتيجياً.
عارضت الجزائر تدخّل “الناتو” في ليبيا الذي تمّ بدفعٍ من دول الخليج في العام 2011، فهي تفضّل أن تستخدم معرفتها بالأفرقاء المحليين الأساسيين من أجل تأدية دور الوساطة للتوصل إلى تسوية سياسية. وحيادُها المُعلَن في الأزمة القطرية يخفي وراءه إستياءً من رهانات أبو ظبي في ليبيا، كما أنه ينطلق من المصالح الديبلوماسية والإقتصادية المشتركة مع الدوحة: فقد إستثمرت قطر مليارَي دولار في بناء مصنعٍ للفولاذ في شرق الجزائر مثلاً، وتعاونت مع السلطات الجزائرية من أجل دفع منظمة البلدان المصدِّرة للنفط (أوبيك) نحو التوصل إلى إتفاقٍ لخفض الإنتاج. هذا فضلاً عن أن تردّد الجزائر في معارضة بشار الأسد في سوريا، ورفضها تصنيف “حزب الله” أو “حماس” في خانة التنظيمات الإرهابية، وإحجامها عن المشاركة في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، قدّمت برهاناً لقطر بأنها تستطيع البناء على شراكتها مع الجزائر من أجل دفع هذا البلد الذي هو من كبار مصدّري الغاز في العالم، إلى إستخدام سياسته الخارجية المستقلة ونفوذه الإستراتيجي من أجل التصدّي للأجندة السعودية والإماراتية في الخليج. قد يدفع ذلك بالرباط إلى توطيد علاقاتها مع السعودية في محاولة للوقوف بوجه الجزائر.
حتى المغرب – الذي يُنظَر إليه بأنه يُقيم العلاقات الأوثق مع دول الخليج بين بلدان المغرب العربي – فقد إتّخذ موقفاً محايداً في المسألتَين الليبية والقطرية، فبدا لمرّةٍ وكأنه يلتقي مع الجزائر، جارته ومنافسته اللدودة. وفي حين أن رغبة الجزائر في التوصّل إلى حلّ من طريق الوساطة في ليبيا هي أولوية وطنية نظراً إلى المشاغل الأمنية التي تقضّ مضجعها عند حدودها مع ليبيا الممتدّة على طول 982 كيلومتراً (610 أميال)، فإن دعم المغرب الإفتراضي للوساطة – حيث نجح في التوصّل إلى إتفاق الصخيرات في العام 2015 لتشكيل حكومة وحدة في ليبيا – كان أشد مرونة، إذ إنه إستند إلى رغبة في تعزيز المكانة الإقليمية أكثر منه إلى المخاوف الأمنية القومية. لتونس أيضاً، شأنها في ذلك شأن الجزائر، مصلحة أمنية في التوصل إلى تسوية للنزاع الليبي، لكنها كانت أقل حياداً في أزمة الخليج. فقد تمتّعت بعلاقات ودّية مع قطر حتى مع تدهور علاقاتها مع الإمارات – ثاني أكبر شركائها التجاريين بعد ليبيا – على خلفية المحاولات الإماراتية للتدخّل في السياسة الداخلية التونسية بهدف كبح الإسلام السياسي وتأثير حزب “النهضة”. ونظراً إلى الدعم المغربي للسياسات السعودية حول إيران والتدخل العسكري في اليمن، فليست للرباط أيضاً القدرة نفسها كما الجزائر على الحفاظ على الحياد في ما يتعلق بالحصار الديبلوماسي والاقتصادي على قطر – على الرغم من أنها تفضّل أن تتمكّن من الاستمرار في الحصول على الاستثمارات والمساعدات المالية من الدوحة.
لقد عمدت السعودية إلى توطيد علاقاتها مع المغرب، عبر التعهّد بتقديم مئة مليون دولار في كانون الأول (ديسمبر) الماضي لمؤازرة القوة المشتركة المعروفة بمجموعة دول الساحل الخمس، والمدعومة من فرنسا والمغرب، والتي تتألّف من خمسة آلاف جندي من دول الساحل، والهدف منها محاربة المجموعات المسلّحة ووضع حد للهجرة غير الشرعية. ولا يؤدّي ذلك فقط إلى توسيع الانخراط السعودي في شمال أفريقيا، إنما يساهم أيضاً في التقريب بين المصالح المغربية والسعودية، ويتسبّب بمزيد من التهميش للجزائر – التي ظلّت خارج مجموعة دول الساحل الخمس جرّاء خصومتها مع المغرب. وقد يكون الدعم السعودي – وصفقات الأسلحة المحتملة مع فرنسا التي قد تتأتّى عن الانخراط الفرنسي المتزايد في المغرب العربي – محاولة أيضاً لتحسين العلاقات مع باريس التي تأمل بأن تحلّ مكان لندن في موقع القناة الموثوقة من الرياض في الاتحاد الأوروبي عندما تنسحب المملكة المتحدة من الاتحاد.
في غضون ذلك، ربما أكّد الخلاف القطري مع البحرين والسعودية والإمارات شكوك الدول الخليجية الأخرى بأن قطر مستعدّة للتخلّي عن الالتزام الأمني الجماعي في إطار مجلس التعاون الخليجي سعياً وراء تنفيذ سياستها الإقليمية الخاصة – مع العلم بأن تصرّفات تلك الدول لم تُبقِ من خيار آخر أمام الدوحة. لقد تسبّب الحصار على قطر بتعطيل قمة دول مجلس التعاون الخليجي في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ما قوّض أكثر فأكثر إدّعاء المجلس بأنه المنتدى الأمني الإقليمي الأساسي والحصن الأمامي في المساعي الآيلة إلى إحتواء إيران.
في هذا السياق، وبغض النظر عما ستؤول إليه الأزمة، غالب الظن أنها ستؤثّر بدورها في السياسات المغاربية تجاه الخليج، مع سعي الجزائر والرباط إلى الإفادة من تطلّعات شركائهما الخليجيين المفضّلين في شمال أفريقيا من أجل تعزيز مصالحهما في منطقة الخليج. لذا من أجل معالجة المشاغل العابرة للأوطان والأقاليم التي حلّت مكان المقاربات الجيوستراتيجية للعلاقات بين الخليج والمغرب العربي، من الأجدى بالفريقَين التخلي عن ديبلوماسية الصفقات وإطلاق حوار إستراتيجي وأمني أكثر نضوجاً وشفافية.

• جاك روسيلييه أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة العسكرية الأميركية، شارك في تحرير كتاب “آفاق حول الصحراء الغربية: الأساطير والقومية والجيوسياسية”.
• عُرِّب هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى