حذارِ من إقفال وتصفية وكالة “الأونروا”

بقلم كابي طبراني

في الثاني من كانون الثاني (يناير) الجاري أشارت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، إلى أنه ليس في نية إدارة ترامب أن تستمر في تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تؤمّن التعليم والرعاية الصحية وسواها من الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، وذلك “بانتظار أن يوافق الفلسطينيون على العودة إلى طاولة المفاوضات”. جاء كلام هايلي في أعقاب قيام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، بالموافقة على قرارٍ نصَّ على أن أيَّ مساعٍ لتغيير وضع القدس “لاغية وباطلة”.
تبدّدت أية شكوك حول ما إذا كان كلام هايلي جدّياً أو مناورة، عندما غرّد الرئيس دونالد ترامب على “تويتر” بعد بضع ساعات على إدلاء المندوبة الأميركية بتصريحها: “…. لقد رفعنا مسألة القدس، وهي الجزء الأصعب في المفاوضات، عن طاولة المباحثات، إنما على إسرائيل أن تدفع أكثر مقابل ذلك. لكن نظراً إلى أن الفلسطينيين لم يعودوا مُستعدّين للتفاوض حول السلام، فما الذي يحملنا على تسديد أيٍّ من هذه الدفعات الطائلة لهم في المستقبل؟”
مع ذلك، يبدو أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إستطاع إقناع رئيسه بعدم وقف تمويل “الأونروا” ولكن بتخفيضه، إذ أبلغ الأمم المتحدة أخيراً بأن وزارته ستحوّل إلى الوكالة الأممية 60 مليون دولار بدلاً من 120 مليوناً خلال الأيام المقبلة.
وإذا كانت إدارة ترامب تسعى إلى الضغط على الفلسطينيين بواسطة التهديد بوقف تمويل “الأونروا” لإعادتهم إلى طاولة المفاوضات، فإن إسرائيل تعمل بجهد ل”تصفية” الوكالة ونقل وظائفها إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وهذا بالضبط ما طلبته الحكومة الإسرائيلية رسمياً من الأمم المتحدة أخيراً. وليس من الصعب معرفة سبب رغبة الدولة العبرية في إغلاق وإزالة “الأونروا”، فهي بحكم طبيعتها لا علاقة لها بأي شيء يخصّ الفلسطينيين أو يتعلّق بحقوقهم، ولا سيما عندما يكون وجود “الأونروا” ذاته تذكيراً دائماً بأن القضية الفلسطينية لم يتم تسويتها بعد، ولا يزال اللاجئون الفلسطينيون ينتظرون العودة إلى وطنهم الأصلي.
أنشئت وكالة “الأونروا” بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1949 لتقديم خدمات الإغاثة الأساسية للاجئين الفلسطينيين وذرّيتهم. وقد أيّد القرار جميع الدول الاعضاء فى الأمم المتحدة بما فيها إسرائيل مع إمتناع روسيا وجنوب أفريقيا فقط عن التصويت.
وتُقدّم هذه الوكالة الأممية خدماتها للفلسطينيين الذين خرجوا من ديارهم خلال حرب 1948 التي وُلِدت على أثرها إسرائيل، وأولئك الذين طُرِدوا من الضفة الغربية خلال حرب 1967 بين إسرائيل والدول العربية المجاورة لها.
إن ما تُقدِّمه “الأونروا” للفلسطينيين، البالغ عددهم 5 ملايين نسمة والمنتشرين في غزة والأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية، هي خدمات إنسانية صارمة تُغطي الإحتياجات الأساسية للاجئين مثل التعليم والصحة والمساعدة الإجتماعية والإسكان البدائي والإحتياجات الطارئة. وتُعتبَر الولايات المتحدة الجهة المانِحة الأكبر لهذه الوكالة، مع مساهمة سنوية قدرها 300-400 مليون دولار في الأعوام الأخيرة، أي أكثر من عشرين في المئة من موازنة “الأونروا” السنوية، التي تواجه أصلاً نقصاً مستمراً بسبب التعهّدات التي لا يتمّ الإلتزام بها كاملة. وفي حال أقدمت واشنطن على تجميد دفعاتها ل”الأونروا” تجميداً تاماً، فسوف يتسبّب ذلك بشلّ المنظمة.
في حين أن التأثيرات السياسية للخفوضات في تمويل “الأونروا” على القيادة الفلسطينية تبقى في دائرة التكهّنات، فإن الأمر مختلف في ما يتعلق بالتأثيرات الإنسانية. فهناك سبعمئة مدرسة تابعة ل”الأونروا” تضم أكثر من 500,000 طالب، كما أن العيادات الصحية ومواقع توزيع المواد الغذائية التابعة للوكالة تُقدّم الخدمات لنحو نصف سكّان غزة البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة. وليس هناك من مُقدِّم خدمات بديل قادر على أن يُبادر سريعاً إلى ملء هذا الفراغ، كما أنه لايتوافر مصدر تمويل بديل من أجل سدّ الثغرة. ولذلك من شأن هبوط حادّ وغير متوقّع في مستويات التمويل الأميركي أن يُهدّد التحصيل العلمي لعشرات آلاف التلامذة الفلسطينيين، ويُلحق مزيداً من الأذى بالظروف الإقتصادية المُزرية أصلاً في غزة.
وسوف تكون للخفوضات في تمويل “الأونروا” تداعيات أبعد من غزة والضفة الغربية في مرحلةٍ يشهد فيها المشرق العربي إضطرابات تاريخية. يواجه لبنان والأردن مشقّات في تحمّل التبعات المالية والسياسية المتأتّية عن وجود نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري في الأول، وأكثر من 650,000 في الثاني. وهناك حوالي 500,000 لاجىء فلسطيني مُسجّلين لدى “الأونروا” في لبنان، وأكثر من مليونَين في الأردن. وحتى في حال تبنّي التقديرات الأكثر تدنّياً الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، والتي تشير إلى تراجع أعداد الفلسطينيين في البلاد إلى 175,000، من شأن حدوث إنخفاض حادّ في الخدمات التي تقدّمها “الأونروا” أن يشكّل خبراً غير مرحَّب به على الإطلاق.
بالطبع، يُعاني الفلسطينيون في سوريا من الوضع الأكثر حرجاً. كان هناك نحو 560,000 لاجئ فلسطيني مُسجَّلين لدى “الأونروا” في سوريا قبل إندلاع الحرب الأهلية، وثمة صعوبة في إحتساب الأرقام راهناً. قبل النزاع، كانت الوكالة الأممية تتولّى تشغيل 118 مدرسة. واللافت أنه في أواخر أيلول (سبتمبر) الفائت، كانت هناك 101 مدرسة من تلك المدارس لا تزال تفتح أبوابها، ويلتحق بها نحو 48,000 طالب وطالبة على الرغم من العنف الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 18 موظفاً من “الأونروا”.
لماذا تريد إسرائيل إنهاء هذه الخدمات في الوقت الذي لا يزال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من دون حلّ وما زال اللاجئون المُتضرِّرون يعيشون في مخيمات بعيداً من وطنهم بإنتظار حلول الوقت الذي يمكنهم فيه العودة إلى بلداتهم ومدنهم الأصلية في الأراضي التي تشكل الآن إسرائيل أو الضفة الغربية؟
تؤكد قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة أن للاجئين الفلسطينيين الحق في العودة إلى وطنهم أو قبول التعويض. ولا يزال يتعيّن تنفيذ هذا الحق الذي ترفضه تل أبيب بكل قواها، وذلك لأنها تُفضّل أن يبقى هؤلاء اللاجئون بشكل دائم في البلدان العربية المجاورة. ويبدو أن إسرائيل لديها حساسية بالغة من أي شيء يتعلّق بالشعب الفلسطيني أو بحقوقه. لذا يجب على المجتمع الدولي ألّا يسمح لها بتحقيق مطلبها غير المُحق وغير الحكيم وغير المشروع بإيقاف وكالة “الأونروا” والكف عن تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى