لبنان: النفط وحدود الوهم

بقلم البروفسور غسان الشلوق*

في نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي قام من يدعو الى بيع موجودات مصرف لبنان من الذهب بحجة تخفيض الدين العام الذي كان أخَذَ ينمو آنذاك، وكذلك لتوفير مُقوِّمات الإستمرار للدولة اللبنانية امام تحديات الحرب. وبينما رحّب مسؤولو ورجال الفساد مع آخرين ربما طيبي النية بالمشروع قامت معارضة وطنية وإقتصادية واعية ضده ليس لأسباب مالية وفنية فقط بل لأن اي دخل إضافي للدولة كان مُرشَّحاً ليذهب في اجزاء كبيرة منه الى مكامن الهدر، وتكون النتيجة الحتمية أن لبنان مُعرَّضٌ لخسارة ثروة وطنية كبيرة من دون مقابل. وقد أكّدت الوقائع لاحقاً صحّة تقدير هذه المعارضة.
واليوم وأمام الورشة المُنتَظَرة لإستكشاف – والإحتمال الواقعي لإنتاج — النفط و⁄ اوالغاز نقف أمام بعض عناصر الصورة عينها مع فوارق كبيرة طبعاً في المعطيات. من عناصر هذه الصورة المُبالغة الكبيرة بل الوهم في تقدير الثروة المُفترَضة ونتائجها، وكذلك تصوّر حدود المشكلة والحلّ في غير موقعهما الطبيعي، وأخيراً الخوف المُبرَّر من تبذير الثروة وتسريع خطى سوء الإدارة فنخسر في آن معاً عائدات كنا ننتظرها وأخرى عملنا على جمعها طويلاً.
والمعروف ان النفط لم “يُكتَشَف” اليوم في لبنان، فالقصة عميقة جداً في التاريخ وتعود عملياً الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر – ونظرياً قبل هذا التاريخ طبعاً – عندما اشارت دراسات أولية الى إحتمال أن تعكس بعض الظواهر الجيولوجية موجودات نفطية، لكن الخطوة القانونية الأولى إنتظرت لسبب او لآخر حتى 1926 عندما أصدر المفوض السامي الفرنسي تشريعاً يُجيز التنقيب عن النفط وصدر لاحقاً (1933) اول قانون عن مجلس النواب في الإتجاه عينه. وجرت في اأربعينات القرن الفائت أول محاولة للتنقيب في الشمال والبقاع لكنها توقفت لاسباب تجمّع فيها السياسي مع التقني والإقتصادي والمنفعي.
وفي 1974 أُدخِلَت تعديلات على قانون النفط كان يُؤمَل أن تنطلق معها الورشة جدّياَ لكن إندلاع الحرب جذب الإهتمام الى مكان آخرعلى رغم محاولات تحريكها قبل هذا التاريخ وبعده. وتجدّد الإهتمام الرسمي في مطلع هذا القرن، في 2002 تحديداً، وتمثّل بجهد في غير إتجاه أهمه، الى الجوانب الإدارية والفنية، بابحاث شارك فيها أفرقاء دوليون وشركات خبرة من النروج وبريطانيا والولايات المتحة الاميركية وسواها، لكن هذا الجهد توقّف مجدداً نتيجة إستشهاد الرئيس رفيق الحريري وحرب تموز (يوليو) 2006 قبل أن يُستَأنف بتوقيع إتفاقيتين رئيسيتين للإستكشاف شملتا البر اللبناني مع شركة “سبيكتروم” (Spectrum) البريطانية (2012) وشركة “جيوس نيوس سولوشن” (Geos Neos Solution) الاميركية (2014) اللتين إنتهتا الى أول تقدير رسمي للموجودات الهيدروكربونية في لبنان.
وعلى رغم ان هذا التقدير كان أوّلياً فانه تحدث عن كميات تبلغ 95 تريليون قدم مكعبة من الغاز و900 مليون برميل من النفط بقيمة سوقية تبلغ نحو 1050 مليار دولار (650 للغاز و450 للنفط). وواضح ان هذا التقدير لا يعكس الإحتمالات المُنتَظرة في الملف النفطي المفتوح حالياً والذي يعني تحديداً الثروة النفطية في المياه الاقليمية اللبنانية بدءاً ببقعتين فقط منها.
لكن هذا التقدير، على أهميته، وكل الخطوات الإجرائية القائمة والمُنتَظَرة قريباً، على أهميتها ايضاً، لا تُبرّر التفاؤل المُفرط الذي يصل لدى البعض الى حدود الإعتقاد بان مشاكلنا الاقتصادية الاجتماعية كلها ستسلك طريق الحل السريع بمجرد بدء أعمال التنقيب.
هذا التصوّر هو بالتأكيد غير صحيح وربما هو اقرب الى الوهم منه الى وعود هي الاخرى قد تكون إيجابية اذا أُحسِن التصرف إزاءها.
لماذا؟ لأسباب عدة جوهرية أقلها:
-1- إن حصة الدولة من الثروة المُفتَرَضة غير كبيرة – في المرحلة الاولى على الأقل – والأمر إرتبط بطبيعة المفاوضات لتوقيع أول إتفاقية للإستكشاف والإنتاج ولمعطيات سوق النفط العالمية حالياً. فبالإضافة الى أتاوات اولية ( 4 في المئة من الغاز و5-12 في المئة من النفط) يُفترَض أن تحصل الدولة على حصة من الأرباح (30 في المئة على الاقل) بعد حسم الأتاوات وأكلاف الإستكشاف والإنتاج والتطوير، وهي مسائل قد تنطوي على سوء تفسير وتقدير، كما تحصل الدولة على الضرائب المستحقة. بإختصار فإن الدولة هي في هذه المرحلة على الأقل صاحب حصة من الارباح بتعقيداتها وليست شريكاً في الإنتاج.
-2- إن هذه الحصة المُقَدَّرة تبقى دون مليار دولارسنوياً (ربما 500- 800 مليون ) حسب معطيات اليوم في المرحلة الأولى وهي محاصيل مُفتَرَضة من دون الحلم الرائج ومن دون محاصيل ضريبية أُخرى، علماً ان هذه المداخيل لن تتحقق قبل بدء الإنتاج والتسويق اي بعد ثلاث سنوات على الأقل في ظروف غير مُتغيرة.وهذا يعني ان الواردات الاضافية لن تكون كافية متى تحققت لخدمة الدين العام الاضافي عندما نقف على عتبة مئة مليار دولار.
-3- ان العملية النفطية اللبنانية تأتي في وقت تشهد فيه سوق النفط العالمية تحدّيات أقلها تراجع الأسعارالى مستويات غير مُحفِّزة للإنتاج في غير موقع وتنامي إستعمال الطاقات البديلة وسط الضغوط المناخية الكبيرة والتركيز على إنتاج آلات موفِّرة للطاقة او صديقة للبيئة.
-4- والأسوأ أن “الترويج للثروة” يرخي ظلالاً سلبية على بعض السياسات المالية فيفتح المجال أمام هدرٍ إضافي (وفسادٍ أكبر) على أمل الوعد المُنتَظر ، كما يُرجىء تنفيذ سياسات أخرى مطلوبة بإلحاح للقطاعات الإقتصادية الجدية بإعتبار ان لبنان قد لا يعود بحاجة الى مثل هذا الإهتمام غداً.
-5- وفي إختصار، فإن الثروة النفطية ليست هي الحل بالضرورة وهذا الذي يحصل في دول نفطية كبرى ( من فنزويلا الى نيجيريا الى بعض الدول العربية) خير دليل . فالحل في سياسة إقتصادية إجتماعية إنقاذية شاملة جديدة تكون الثروة النفطية جزءاً منها.

* خبير إقتصادي، أستاذ في العلوم الإقتصادية والعميد السابق لكلية العلوم الإقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى