بيئةٌ غيرُ حاضنةٍ للديموقراطيّة

بقلم سجعان قزي*

نخافُ على الكيانِ اللبنانيِّ والصيغةِ ونُـهمِلُ الديموقراطـيّةَ المأزومةَ في بلادِنا، وكأنّها “عُضوٌ شَرف” في الجسمِ اللبنانيّ، فيما هي الحلُّ الحضاريُّ لمشاكلِنا الميثاقيّةِ والمُنقِذُ الدستوريُّ للدولةِ والكيانِ والصيغة. إنَّ جُزءاً واسعاً من أزَماتِنا السياسيّةِ والأمنيّةِ، ما كان ليقَعَ ويَستفحِلَ لو إنتظمَ الأداءُ الديموقراطيّ. فالديموقراطيّةُ ليست نظامَ حُكمٍ فقط، بل منظومةُ حلولٍ لأيِّ طارئٍ في الحياةِ العامّة. إليها تَـحتكِمُ الشعوبُ المتَحضِّرةُ لتسويةِ خِلافاتِها الوطنيّةِ والدوليّةِ بعيداً من العُنف.
وأعترفُ أنَّ حَيْرةً تَعتريني حين أحاولُ تحديدَ سببِ عُطْلِ الديموقراطيّةِ في لبنان. أهي الطبقةُ السياسيّةُ أم الصيغةُ الطائفيّة؟ أهو الولاءُ الوطنيُّ الناقصُ أم الشَرَهُ السياسيُّ الزائد؟ أهو الاختلالُ الديموغرافيُّ أم صراعاتُ المحيطِ الجغرافيّ؟ أهي الحروبُ والأزَماتُ المتواليةُ أم القضيةُ الإجتماعيّةُ المتفاقِمة؟
الجوابُ المباشَر ـــ والصحيحُ أيضاً ــــ أنَ جميعَ هذه الأسبابِ مجتمِعَةً مسؤولةٌ عن تراجعِ الديموقراطيّةِ اللبنانيّة. وأعني المفهومَ الواسعَ للديموقراطيّةِ أيّ مجملَ سلوكِ الحياةِ في المجتمعِ اللبنانيّ، وقد باتَ تافهاً وساقِطاً، وليس المفهومَ التقنيَّ أيّ الإستحقاقاتِ الإنتخابيّةَ وهي متعثِّرةٌ دائماً ومُعطَّلةٌ غالباً. لكنْ، بإعتقادي، أن السببَ الأساس الذي نَبتَتْ حولَه الأسبابُ الأخرى هو: إقدامُ مُكـوّناتٍ لبنانيّةٍ، تِباعاً وبدعمٍ إقليميٍّ، على إعادةِ التكوينِ الطائفيِّ خلافَ الميثاقيّةِ ونمطيّةِ الحياة من دونِ تغييرِ الكيانِ اللبنانيّ، ومن دونِ إحترامِ النظامِ الديموقراطيّ. فالكيانُ اللبناني يكون ميثاقـيّـاً وديموقراطيّاً أو لا يكون.
صِيغَ لبنانُ ليُعجِبَ الجميعَ فما عاد يُعجِب جميعَ مكوّناتِه، وتأسَّس ليَجمَعَ أبناءَه فقسَّموه فشَـــتَّــتَهم. قليلون أدركوا أنَّ لبنانَ مَــزْجةٌ كيميائـيّـةٌ تَنسابُ كالموسيقى الكلاسيكـيّـة، وتَنفجِرُ كالبارودِ لمُجرَّدِ المسِّ بإحدِى موادِها.
هكذا رَحَلَ لبنانُ من ثنائيّةٍ دينيّة قَيدَ الإنشاءِ (المسلمون والمسيحيّون) إلى ثنائيّةٍ مذهبيّةٍ قَيدَ النزاعِ (السُنّةُ والشِيعةُ) من دونِ إلغاءِ الأولى، فأضيفَت صيغةٌ مفجِّرةٌ إلى الصيغةِ المفجَّرة، ما إرتدَّ على الديموقراطيّةِ الشابّةِ والكيانِ الطَريّ، وأصبحَ لبنانُ نقيضَ ثلاثِ وَحَداتٍ: اللبنانيّةِ، والإسلاميّةِ، والمسيحيّةِ/الإسلاميّة، أي نقيضَ ذاتِه، ففَقدَ رُشدَه الوطنيَّ وإضطَرَب وتَاهَ وأصبحَ مُجتمَعاً عصبيّاً، وأضاعَت الديموقراطيّةُ صفاءَها.
ليست الديموقراطيّةُ نِظاماً تقنيّاً فقط كالديكتاتوريّـةِ، بل هي نمطُ حياة، وليس الكِيانُ مساحةً جُغرافيًةً فقط كالأرض، إنما هو شَراكةٌ إنسانيّة. لم تَتحمّلِ الديموقراطيّةُ ثِقلَ الميليشياتِ السابقةِ ولا عِبءَ الميليشياتِ الحاليّةِ فإنكفأت، كما لم يَـحتمِلِ الكِيانُ لُعبةَ الطائفيّةِ المستدامةِ ولا عبَثَ المذهبيّةِ المتجدِّدة فتَرنَّح. خَسِرَ لبنانُ مواصفاتِ الوطن. والمـؤلِـمُ أن اللبنانيّين دفعوا ثمنَ وطنٍ لكنّهم إستثمَروا مزرَعة. والموجِعُ كذلك أنَّ لبنانيّين إنتزعوا وطناً من براثنِ الأممِ فرَماهُ لبنانيّون آخَرون في صراعاتِها.
حين تُهمَّشُ الديموقراطيّةُ تقعُ الميثاقيّةُ ويَلحَقُ بهما الكِيان. يَخرجُ الحكَّامُ عن الدستورِ ويُطوِّعون المؤسساتِ. تُتحوّلُ الثوابتُ إجتهاداً وتَضعُف الدولةُ وتَفقِدُ مناعتَها فـتُـمسي عُرضَةً للفيروسات والأمراض. حينئذٍ تنتعشُ الـمُحرَّماتُ ويُـحلِّلُ المسؤولون لأنفسِهم أنْ يَتصرّفوا كَوكلاءَ تَفليسةٍ. يضعون أيادِيهم (جمعُ الجمعِ) على خيراتِ الوطنِ كأنّها مغانمُ سلطة. إنّـه سَــبْـيُ لبنان.
أهلُ السياسةِ في بلادِنا يَعتبرون الإنتخاباتِ النيابيّةَ “شُـبّاكَ تذاكِر” لا صندوقةَ إقتراع، والمواطنين “قُطاّعَ تذاكِر” لا ناخبين. منهم يأخُذُ السياسيّون بِطاقةَ دخولٍ إلى “ملكوتِ” السلطةِ وبها يَـعيثون. وآخِرُ خديعةٍ هي إلهاءُ الشعبِ بشرحِ تَعاويذ قانونِ الإنتخابِ عِوضَ شرحِ البرامجِ الإنتخابيّةِ والوطنيّة.
لذا، باطلةٌ سلفاً أيُّ عمليّةٍ إصلاحيّةٍ تَنطلقُ من واقعِ الإختلالِ الميثاقيِّ والديموقراطيِّ القائمِ في دولةِ لبنان. وسنتأكّدُ مِن ذلك فورَ صدورِ النتائجِ المقرَّرةِ للانتخاباتِ النيابيّةِ في أيّار (مايو) المقبل. وأصلاً، قَد حُبِكَ قانونُ الإنتخاباتِ الجديدِ ليُشرِّعَ إختلالَ الأمرِ الواقع وليؤسِّسَ لنظامٍ آخَر من دونِ إعلانٍ رسميّ. ومرّةً أُخرى تُسخَّرُ الديموقراطيةُ، في التاريخِ الحديث، فـتُمَدُّ سَجّادةً حمراءَ يَـمرُّ أعداؤها عليها.
إن درجةَ المُلوحةِ الطائفيّةِ في الجوِّ اللبنانيّ أثّرت في مخزونِ الديموقراطيّةِ، كما أنَّ الإحتباسَ المذهبيَّ ضَغط على الـمُناخِ الديموقراطيِّ عندَنا. وإذا كانت الديموقراطيّةُ في أوروبا والعالم إنتشَرت مع تراجعِ سلطةِ الدينِ في الدولةِ والمجتمعِ، فكيف للديموقراطيّةِ أنْ تَستعيدَ عافيتَها في لبنان والطوائفُ والمذاهبُ تَتقدّمُ في الدولةِ وتتربَّعُ في المجتمَع وبعضُها يَـخنُق الحرّياتِ والإنسان؟ لقد أصبحَ لبنانُ بيئةً غيرَ حاضِنةٍ لنظامٍ يَرتكز أساساً على الحرّياتِ والفصلِ بين السُلطات.
حاولنا في لبنان أن نُكيّفَ فلسفةَ النظامِ الديموقراطيِّ مع خصوصيّةِ المجتمعِ اللبنانيّ. تَقدّمت التجربةُ طالما كانت الطائفيّةُ ممرّاً نحو مجتمعٍ مدنيٍّ، لكنّها تراجَعت لـمّا أصبحَت الطائفيّةُ مَعبراً نحو مجتمعٍ دينيٍّ متزمِّتٍ ورافضٍ القيَمَ العالميّة. صحيحٌ أنَّ العلمنةَ ليست شرطاً للديموقراطيّةِ، لكنَّ التزمُّتَ الدينيَّ هو عائقٌ أمامَها. إنَّ مفهومَ الديموقراطيّةِ لدى طائفةٍ مختلِفٌ عن مفهومِها لدى طائفةٍ أخرى، كما أنَّ تطبيقَها في محافظةٍ مختلِفُ عن تطبيقِها في محافظةٍ أخرى. صارت الديموقراطيّةُ عندَنا ديموقراطيّاتٍ مثلما صارت الدولةُ دويلات.
لذا، يبدو النظامُ اللبنانيُّ مُعلّــقاً بين ديموقراطيّةٍ تَطلب السماحَ بالمرورِ وبين تزمُّتٍ دينيٍّ يُخالِف قانونَ السيرِ ومسارَ التاريخ.
عاجِلاً أو آجِلاً، ستكون حصيلةُ المواجهةِ لمصلحةِ الديموقراطيّة. التقدّمُ أقوى من التخلّف، والحرّيةُ أقوى من الكبْت. والدين أقوى من العابثين به. يَبقى أنْ نَعرِفَ كيفَ ومتى.
هذه التحوّلاتُ السلبيّةُ لا نَشعُر بتأثيرِها في حياتِنا اليوميّة. حركةُ المجتمعِ تَحجُب الأخطارَ المصيريّـة، فنَهـرُبُ من الإعترافِ بها كما يُخفي التجميلُ تجاعيدَ السنواتِ، فنُنكِرُ العُمرَ لكنْ لا نُـغيّـر في “المكتوب”. لكَـثرةِ ما عانيْنا أصبحنا نَرفض مُـجرّدَ التفكيرِ بإحتمالِ تعرّضِنا لمعاناةٍ جديدة. وإذا كنا شعباً متفائلاً بالحياة، فالتفاؤلُ لا يَمنعُ اليقَظةَ، لاسيّما أنَّ أداءَنا الوطنيَّ ساءَ رغمَ المعاناةِ والمِحن.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى