موتٌ في أبراجٍ مُشيَّدة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

حين تُساق إلى الحرب سَوقاً، وتجد نفسك هدفاً لرماح العدو ونبله، فلا تنكص على عقبيك، لأن الموت الذي يقف عند عتبة بابك لن يُفرِّق بين صدر وظهر. لا تُيمِّم وجهك نحو أطفالك حتى لا يروا في عينيك قلّة حيلتك وهوانك على الناس. خضّ الحرب كرجل، ولا تترك للنساء مهمّة تكفينك وإهالة التراب فوق صدغيك. أعرف أيها العربي الأخير أنك لم تُحدّد موعد المعركة، ولم تعد لها خيلك ورجلك، وأنك تُساق إليها مُكرَها كالعبيد، وأن الألوية التي ترفرف فوق خوذتك ليست لك، وأن السلاح الذي وضعوه تحت إبطك ليس من صناعتك، وأنك ضعيف كقشة وسط المحار. لكن الخيار ليس لك، والنصر والهزيمة سيان في عرف العبيد، لأنهم لا يشاركون المنتصر ولائم النصر، ولا يقتسمون مع الفاتحين الغنائم.
الحرب ليست لك، والمدافعون عن مدنك لا يزالون يربطون خيولهم داخل معابدك، ويتغوطون فوق كتبك المقدسة، فهم ليسوا من جلدتك على أية حال. أما الذين من جلدتك، فقد بعتهم أو باعوك، ولم يقبض أيّكم الثمن. عليك أن تقاتل لتنجو لا لتحيا، وعليك أن تواصل زحفك نحو أي مدينة، وأن تشهر سلاحك في أي وجه، وأن لا ترقب في أخ أو صديق إلّا ولا ذمّة. ففي الحرب يُباح كل شيء، ولا حرمة في حروب الزمان الأخير لأي مقدّس.
سيأتيك الروم والروس، ويحيط بمآذنك اليهود والمجوس، ولن تهرب من قبضة الموت إلّا إليه، فارفع في وجه التاريخ سلاحك، ومزّق أوراق المعاهدات التي وضعتك مع رفاق الهزيمة في سلة واحدة. لا عليك من حلف الفضول، فكم من الأحلاف نقضت. ولا تأخذك في الخيانة لومة عربي، فمَن بالله في عصر المهانة لم يخن ولم يغدر ولم يغل. المهم أن لا تثق بالحدود ومَن وراء الحدود، وأن لا ترحم مَن تحت يدك، الذين لا يتوقفون عن المطالبة بالعيش والحرية والكرامة، لأنهم حين يظفرون بك لن يرحموك.
قدم فروض الولاء لنماردة العصر فقط، فهم يملكون الموت والحياة والنشور، ويستطيعون أن يأتوا بالشمس من المغرب، وأن يدخلوا الجمل في سم الخياط. أما رجالك – أو من بقي منهم – فقد تركوا كل مقدساتهم، وخرجوا للرعي، بحجة أن للبيت ربٌّ يحميه، فلا تنتظر حتى يعودوا لأنهم يقفون على الحدود في إنتظار أبرهة ليدبكوا بين يديه وهم ينشدون “طلع البدر علينا”.
كن روسيّاً في الصباح، وأميركيّاً وقت الضحى، وحين تغرب الشمس كن فارسيّاً، وحين يحل الظلام، إرفع نجمة دَاوُودَ فوق الكنائس والمساجد والبيوت. انج برأسك المستهدف من كل جهة، ولا تنتظر حتى يكبر الفرس حول خيمتك، أو يسقط الروس براميلهم المتفجرة في صحن بيتك. انج قيس فقد هلك صالح. وعند مسقط رأسه، هلل المحاصرون “الموت لأميركا” وأسقطوا رأسه، فهل تراهم ضلّوا الطريق أم لأن الرؤوس تشابهت عليهم؟ رأس صالح ليست ببعيد أيها الواقفون فوق رمال أوطان متحركة. ولا وقت للتردد، فلتوجهوا بنادقكم حسبما يريد المحتل، ولا تصدقوا أن وراء الجدر جيراناً محبين. فالكل يتربص بالكل في إنتظار الإنفجار الأخير. ضع متاريس العدو خلف بابك أيها العربي المُستَهدَف، فالطائرات المُغيرة لا تأتي إلا من الجوار، والخناجر المسمومة لا تصل إلا من الحدود القريبة، ولا ينعقد مجلس الأمن ولا ينفَضّ إلا بدعوة تُدينك من سفيه كنت تتقاسم معه كأس الحليب وفصوص البرتقالة.
ضع التاريخ خلفك، ودس بقدمك فوق الأعلام والحدود والكتب المقدسة، وسيّد كل من ينتهك حرمة وطنك أو معبدك، وإنتظر حتى تُشرق شمس هذا الليل من مغربها. فبلادنا فقط تفتح أبوابها للمحتل من دون قتال، ويُقاتل رجالها في صفوف الأعداء تحت رايات شتى ومن دون مُقابل، وحين يقتل بعضهم بعضاً يكبرون ويُهلّلون ويتصايحون “الموت لأميركا.” لكن الموت لا يسمع ولا يفهم العربية، لأن الموت لم يعد لأميركا ولا لإسرائيل. الموت لم يعد يغادر ساحاتك أيها المغلوب على ضعفه. الموت صار موسمك الأبدي تتزاحم فيه كل فصولك وكل خيباتك وكل فتوحاتك وكل هزائمك.
يمكنك أن تفر من الموت كما فرّ دارا ذات هزيمة، لكنك حين تُقتل بأيدي رجالك، لا تطمع أن يردك إسكندر إلى أمك لتُكفّنك وتبكي عليك، ففي بلادنا لا يترجّل أي فارس من فوق أعواد المشانق حتى وإن كان صدّاماً. الكل يتشفّى بالكل، والكل يمثل بالكل، وهند تأكل كل كبد رطبة لكل مقاتل وتكبر. الموت أكبر من قدراتك الواهنة على الفرار، والموت يتربّص بكل حدودك المُستباحة. كل ما يمكنك أن تطمع فيه يوم آخر تتنفس فيه عرق المحتل وعطره، لكنه كل ما تملك فوق خريطة لم تعد تعبأ بك، ولا بتاريخك القديم. فحارب أيها العربي بشجاعتك المعهودة وفر من الموت.

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى