هل يُنقذ التقشّف تونس من الإنهيار الإقتصادي؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

تجنّبت تونس الصواب ، منذ منتصف سنة 2012 عندما رفضت أخذ الثور من قرونه، وتركت حسين الديماسي يستقيل من وزارة المالية، ورفضت الإصلاحات التي كان يجب أن تُقدِم عليها الحكومة منذ ذلك الحين، وإستمرأ الشعب التونسي ما كان يظنّه الأمر الطبيعي، ولم يقل له أحد من المسؤولين أن البلاد كانت تسير على الطريق الخطأ، وأعجبه أن يواصل على ذلك الطريق حتى أفلس البلد أو كاد. وإذ لم تُقدِم الحكومة وقتها على إصلاحات موجعة، فإن البلاد إضطرت اليوم إلى مواجهة وضع صعب شديد الإستعصاء، وأُجبِرَت على الدخول إلى العام الجديد وإتخاذ قرارات موجعة جداً، ومؤلمة، ومن دون تبنيج أو تخدير. وخلال سبع سنوات أجّلت الجكومات المتعاقبة إتخاذ أي قرار والأعين مغمضة على واقع مرّ تزداد مرارته يوماّ بعد يوم، واستيقظ التونسيون على حال لا يسر لا الصديق ولا العدو: إقتصاد منهار، وتوازنات مُختلّة منخرمة، ومديونية سيئة لا قدرة للبلاد على مواجهتها لأنها لم تُنفقها في خلق الثروة، ولكن لتأكل بها زرعها أخضر في أجور لا يقابلها إنتاج، ودعم يفوق الطاقة، في بلد إنحدرت إنتاجية رجاله ونسائه وبات يسكن في المقاهي صباحاً وظهراً وليلاً، وهجر المكاتب و مواقع الإنتاج، وإستهلاك يفوق الطاقة، ودلال في بلد طلق بالثلاثة الجهد والعمل إلا من رحم ربك، بلد تآكلت قدراته بالإعتصامات والإضرابات والنوم في ساعات العمل.
حديث مؤلم أسوقه، ومن المؤكد أنه لا يعجب الكثيرين، ولكني تعودت دوما على القيام من خلال ما أكتب، على الدخول في الصدامات التي لم يكن الناس ليدركوا صحتها إلا بعد وقت. فأنا لست من الذين يكتبون ما يعجب وما يسر.
في بلد صحافته تُجامل، وتلفزيوناته ومذاييعه ومواقعه الالكترونية، تريد أن ترضي شعباً للأسف نام على حقيقة أزلية، هي أن الثروة الأولى لشعب هي الـعمل، والعمل لا يعني شغلاً مضموناً بأجر مدفوع، ولكن يعني جهدا وفيراً وعرقاً غزيراً، وإنتاجاً فعلياً نتيجة ذلك العمل.
أقول هذا بعد ثلاثة أو أربعة أيام من دخول الإجراءات الجديدة للعام الجديد حيز التطبيق، وكأنها لم تكن معلومة، بل هي منذ أسابيع مُعلنة وبالتفصيل الممل. أقول هذا وأنا الأجير صاحب جراية التقاعد المتواضعة كما حالنا نحن الصحافيون لما قبل الثورة.
ولعلّه من حسن الحظ أن موقف رجال مثل يوسف الشاهد رئيس الحكومة وشلغوم وزير المالية وعدد آخر من المسؤولين ليعالجوا أوضاع البلاد بصدمة لعلها توقظها من نومها، وتعيدها إلى سكة الرخاء، فنستعيد ما بلغته من معدل للدخل الفردي بالدولار لا بالعملة المنهارة التي كان الجميع سبباً في إنهيارها، وذلك بتخلينا جميعاً ومن دون إستثناء عما ينبغي أن نقوم به ونبّه له الوزير حسين الديماسي قبل سنوات، ولمّا لم يجد أذناً صاغية إستقال، ولم يشارك في المؤامرة التي عرفتها البلاد بإنهيارها إقتصادياً، وما نتخبط فيه اليوم من مشاكل، مما وضع بلادنا في حالة سيئة يمكن تلخيصها في ما يلي:
** إضطرارٌ إلى الدخول في حال من التقشف المفروض لا بإرادة الحاكمين ولكن بسبب عدم إتخاذ القرارات الواجبة في الوقت المناسب.
** إرتخاء إنتاجي حيث لم يعد معه البلد قادراً على توفير ما ينبغي له أن يوفره أو يدخر منه، عامداً بالمقابل إلى إستيراد ما لا قدرة له طبيعياً على إنتاجه.
** تسيُّبٌ بحيث لم يعد معه للدولة معنى، ةهذا يذكرني بمقال يكتب بماء الذهب كتبه المفكر التونسي الكبير مصطفى الفيلالي بعنوان ” هل بقيت في تونس دولة؟”
ومع هذه الحال، وأنا لم أتعوّد ألّا مصارحة الشعب بما ينبغي أن يُقال له، مهما ستكون الإتهامات الباطلة، وإذ كنت مثل الغالبية أعيش من جرايتي التقاعدية، وأشعر بضيق لم أشعر به من قبل في مواجهة تكاليفي المعيشية المتواضعة أنا وعائلتي الصغيرة، فإني لا أرى مفراً من إقدام الحكومة على ما إتخذته من قرارات، صادق عليها نواب الشعب الذين بمن فيهم من إنتخبتهم ومن لم أنتخبهم يمثلونني جميعاً، بما يتطلب منهم اليوم من تضامن مسؤول كما تفترض الديموقراطية.
إني لا أرى ما يراه البعض، ممن يرفعون عقيرتهم بشعبوية، يبحثون بها عن شعبية رخيصة لدى الجماهير غير مسؤولة من وجهة نظري، فلعلّ الذي تقرر يكون أول عمل مسؤول تقوم به حكومة وطنية منذ إندلاع الثورة. ولعل الشاهد وشلغوم هما تورغوت أوزال وكمال درويش صاحبا المعجزة التركية الحقيقيان، أو غيرهارد شرودر الذي فرض على ألمانيا الإصلاحات الموجعة، معلناً أنه سيخسر الانتخابات اللاحقة ولكن ما يهمه هو إنقاذ إقتصاد ألمانيا، وخسرها فعلا ولكنه أنقذ بلاده وأعادها إلى الصف الأول، أو ما يقوم به حاليا في فرنسا الرئيس إيمانويل ماكرون وفريقه الاقتصادي بشقيه اليميني واليساري، أو الرئيس لي كوان يو الذي جعل من سنغافورة الصغيرة، دولة عظمى بفضل إصلاحات مثل تلك التي نسعى اليوم في تونس تنفيذها رغم وجعها.
إن الشعوب العظيمة هي تلك التي تقبل التضحية عندما تلزم التضحية، ولكن همسة صغيرة أيضاً، إن كل تلك القرارات على وجوبها وواجهتها بعد جمود سنوات، تتطلب عدالة ضرورية في كل مجال وبخاصة في الأداءات والضرائب، وشفافية مطلقة، ولكن ذلك وفي الانتظار السريع حسب المأمول، لا ينبغي أن يعطل الاقتصاد الكلي عن السير في طريقه الذي يكون الضوء منيراً في آخره.

• كاتب وصحافي تونسي مخضرم، رئيس تحرير سابق لصحيفة الصباح التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى