هل أضاعت تونس فرصة العملة الرقمية؟

تعتبر تونس من أوائل الدول في العالم التي إستخدمت العملة الإلكترونية المشفرة “crypto currency” في معاملاتها المالية حيث قام البريد التونسي في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 بالدخول في شراكة مع منصة”مونيتاس” ( Monetas) السويسرية والشركة التونسية “ديجيتاس” ( Digitus) من أجل توفير حلول مالية ذكية وآمنة للعملاء. وعبر منصة “مونيتاس” يقوم عملاء البريد التونسي بعمليات الدفع والتحويل بأسعار معقولة وبسهولة. كما يقدم البريد التونسي خدمة التحويلات المالية الفورية المعروفة باسم” eDinar” التي تمكّن العملاء من شراء السلع والخدمات ودفع الفواتير عبر المحمول أو الصراف الآلي أو الانترنت.
ولكن، بعدما كانت تونس رائدة في العملة الرقمية، فإن الإرادة السياسية للمضي قدماً في هذا الميدان قد تضاءلت.

الوزير السابق نعمان الفهري: قام بتطوير خطة تونس الرقمية 2020

تونس – محمد شعبان

تُعتَبَر تونس رائدة في مجال العملة الرقمية. كانت من الأوائل في العالم التي إعتمدت عملة وطنية إلكترونية مدعومة بتقنية “بلوك تشين” (blockchain) (الدينار الإلكتروني زائد) في العام 2015، من خلال شراكة بين البريد التونسي وشركة مونيتاس السويسرية للتكنولوجيا والشركة المبتدئة “ديجيتاس” التونسية. من جهته قدّم البريد التونسي لأول مرة طريقة الدفع الإلكتروني إلى البلاد في العام 2000، بعد فترة وجيزة من بدء البنوك الأوروبية تقديم الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، تلاها الدفع بواسطة الهاتف النقال في العام 2009. وفي العام 2016، بدأ نقل 600,000 زبون حاليين يتعاملون بالدينار الإلكتروني إلى نظام الدينار الإلكتروني زائد (e-Dinar plus) الجديد المدعوم بتقنية “بلوك تشين”.
من خلال تطبيق “أندرويد” (Android) الذي يديره البرد التونسي، يُمكن للتونسيين إستخدام هواتفهم الذكية لتحويل الأموال، ودفع ثمن السلع والخدمات بواسطة الإنترنت أو شخصياً، وإرسال التحويلات، ودفع الرواتب والفواتير، وإدارة وثائق الهوية الحكومية الرسمية. ويحتل البريد التونسي موقعاً فريداً لدفع هذا النظام كمؤسسة مالية رسمية مُرخَّصة من قبل البنك المركزي لإصدار هذه العملة الإلكترونية المربوطة بالعملة الوطنية. وفي حين أنه لا يزال في بداياته، فإن التقدم التكنولوجي الذي تم توفيره من خلال هذا النوع من العملات الإلكترونية يمكن أن يحقق تغييرات كبيرة في تونس حيث لا يوجد سوى 27.4 في المئة من السكان، وفقاً للمؤشر المالي للبنك الدولي، لديهم علاقات مصرفية رسمية. وعلى الصعيد العالمي، كانت الأموال المتنقلة عاملاً رئيسياً في زيادة الشمول المالي، وتسمح للناس ببناء مدخرات، والتخطيط لهذه الميزة، والتخفيف من آثار التكاليف غير المتوقعة.
يواجه التونسيون اليوم العديد من العقبات المالية الرئيسية التي يمكن أن يساعدها نظام الدينار الإلكتروني زائد الجديد. إن الدينار التونسي هو عملة غير قابلة للتحويل، وهذا يعني أنه من غير القانوني للأفراد إدخال الدينار إلى داخل البلاد أو أخذه خارجها. لا يُمكن إستخدام بطاقات الإئتمان التونسية في مواقع التجارة الإلكترونية الدولية، مثل أمازون. بالإضافة إلى ذلك، فإن سوق التجارة الإلكترونية المحلية غير متطورة. ولا يحصل التونسيون على الحوافز اللازمة لفتح حساب مصرفي، حتى لو كان بإمكانهم الحصول على واحد. ومع ذلك، فإن الإستخدام الواسع النطاق للدينار الإلكتروني يُمكنه أن يخلق حلقة حميدة، وتشجيع أصحاب المشاريع المحليين على تطوير التجارة الإلكترونية المحلية وتشجيع التونسيين على دخول سوق الدينار الإلكتروني.
كما يزيل نظام الدينار الإلكتروني تكاليف المعاملات الباهظة التكلفة التي توجد في بعض أسواق العملة الإلكترونية الأخرى، مع تغطية رسوم المعاملة بمبلغ دينار واحد، وهي تكلفة يدفعها التجار في معظم عمليات تحويل الدينار الإلكتروني. والمنصة الحالية قابلة للتشغيل المُتبادَل مع خدمات الدفع الإلكتروني الحالية مثل المرافق العامة وشركات الإتصالات والشركات التونسية.
وقد غيّرت العملة الرقمية المشهد المالي في العالم النامي، مُتيحةً الوصول إلى الخدمات بأسعار معقولة لمئات الملايين في جميع أنحاء العالم. وقد أثبتت سلفات الأموال النقالة بأنها ثورية، و”أم- بيسا” (M-Pesa) في كينيا توفر واحداً من أكبر الأمثلة على قوة هذه التكنولوجيا الجديدة. منذ إطلاقها في العام 2007، نمت “أم – بيسا” بسرعة حيث باتت تُقدِّم الخدمات لأكثر من 25 مليون كيني ويمرّ من خلال نظامها حوالي 25 في المئة من الناتج القومي الإجمالي في البلاد. ويعود الفضل لها إلى رفع 2 في المئة من الأسر الكينية من الفقر المدقع وزيادة الدخل بين 5 و30 في المئة بين المستخدمين.
في العام 2015، طرحت دولة الإكوادور عملة رقمية في جزء منها لتوفير وفورات للحكومة، التي كانت تُنفِق في السابق 3 ملايين دولار سنوياً على إستبدال الفواتير القديمة وغير القابلة للاستعمال بالنسبة إلى الفواتير الجديدة. وترتبط العملة الرقمية بالدولار الأميركي (العملة الرسمية للإكوادور) وتديرها الحكومة. وقد تم إعتمادها من قبل سيارات الأجرة ويُسمَح للمواطنين دفع ضرائبهم إلكترونياً وكذلك إرسال الأموال بين الأفراد. وفي السويد، حيث شهد قطاع التجزئة إنخفاضاً كبيراً في المدفوعات النقدية (من 40 في المئة في العام 2010 إلى 15 في المئة في العام 2016)، يحقق البنك المركزي في جدوى إصدار عملة البلاد (الكرونة) إلكترونياً.
على عكس العملات الرقمية الأخرى، تستخدم محفظة الدينار الإلكترونية “بروتوكول المعاملات المستوحى من تقنية بلوك تشين”. وسيتيح هذا النظام الجديد إمكانية التشغيل البيني بين مختلف مزودي خدمات الاتصالات من خلال توفير نظام تسجيل مشترك واحد. ويُعدّ هذا الأمر تطوراً رئيسياً عن أنظمة أخرى حيث يتعذر على عملاء مزوّد خدمة إتصالات دفع أو تلقي مدفوعات من عميل يتعامل مع مزود خدمة آخر، وسيؤدي ذلك إلى خفض تكاليف المعاملات. ويُزيل النظام نفسه الحاجة إلى الثقة بين الجهات الفاعلة في أي تفاعل مالي ويقلل من الحواجز أمام التبادل. ويوضح أحد مؤسسي شركة “ديجيتاس” وليد إدريس بأن التكنولوجيا وراء الدينار الإلكتروني فاعلة، وفعّالة من حيث التكلفة، وتزيل أطرافاً ووسطاء من المعاملات المالية والإدارية.
ولكي يكون للدينار الإلكتروني الآثار الإيجابية المذكورة أعلاه، يجب أن يعتمده عدد كبير من التونسيين والتغلب على بعض العقبات التنظيمية والسياسية. ووفقاً لعرض معز شكشوك، الرئيس التنفيذي للبريد الوطني الذي قدمه في آذار (مارس) 2017، فإن 700,000 تونسي يستخدمون حالياً محفظة الدينار الإلكتروني مع الوصول إلى بطاقات السحب الآلي المدفوعة مُسبقاً وحساب إفتراضي. وهذه بداية جيدة، ولكنها لا تُمثل سوى نسبة ضئيلة من السكان التونسيين البالغ عددهم 11.5 مليون نسمة. ولدى البريد التونسي القدرة على الوصول إلى التونسيين في جميع أنحاء البلاد من خلال فروعه البالغة 1200 في جميع أنحاء تونس. والحسابات في البريد التونسي مُتاحة لجميع التونسيين – بغض النظر عن وضعهم الإقتصادي. ولكن حتى الآن لم يصل إلى الأعداد الكبيرة التي يحتاجها ليكون آلة التغيير في البلاد.
لكن التحدّي الأكبر أمام زيادة إستخدام العملة الرقمية يأتي من المخاوف بشأن غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي حين أن المسؤولين الحكوميين والبنك المركزي يشعران بالقلق من أن المعاملات الرقمية يمكن أن تفتح الأبواب التي يمكن للجهات السيئة والشريرة الفاعلة إستغلالها، فمن المفارقات أن بعض جهود الحكومة لمكافحة الفساد من خلال وضع أحكام لمكافحة غسل الأموال، قد يكون لها أثر في تقزيم إستخدام العملة الرقمية، والتي يمكن إستخدامها في حد ذاتها لمكافحة الفساد. إن طبيعة العملة الإلكترونية تخلق تسجيلاً أو حساباً مشتركاً أو رقم هاتف، وهي قابلة للتعقب بدرجة أكبر بكثير من التحويلات النقدية. كما أنها توفر مستوى من الشفافية مفقوداً في النقد، أو حتى عمليات الدفع التقليدية غير الرقمية.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك إرادة سياسية أقل مما كانت عليه في الماضي لنقل تونس نحو مستقبل رقمي. لقد قام الوزير السابق لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، نعمان الفهري، بتطوير خطة تونس الرقمية 2020، وكان من العقلية نفسها لمعز شكشوك. وقد سعى الرجلان إلى إيجاد حلول مبتكرة تستند إلى التكنولوجيا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في تونس. ومع ذلك، فإن الإدارة اليوم تفتقد إلى بطل الذي يستطيع إستغنام الفرصة وتطوير إستخدام الدينار الإلكتروني أو أدوات تكنولوجية مماثلة من أجل مستقبل البلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى