القطار الآتي إلى الشرق

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

تخيّل أنك عامل “تحويلة” في محطة قطار نائية، وأنه قد غلبك النوم ذات مساء، فلم يوقظك إلا هدير قطار قاب قضيبين أو أدنى، وأنك لمّا فركت عينيك لتزيل ما تبقى من أثر للنوم فوق جفنيك، رأيت خلف الزجاج في غبشة الليل خمسة أطفال يتقافزون فوق القضبان. المسافة في كل ثانية تضيق لتقرب بين مقدمة القطار وأفخاذ الأطفال الذين صرفهم اللهو المؤكّد عن الموت المُحتَمل. تذكر أن القطار يقترب وأنك الوحيد القادر على تحويل مساره، وأن ضحكات الأطفال ستختلط عما قريب مع أزيز عجلات القطار لتسمع نشازاً وجودياً لن تنساه ما حييت.
لكن إنتظر، فبين القضيبين الآخرين كهل يتهادى وقد شغلته همومه عن صافرات الموت. لعلّه كان يعلم أنه يسير في الطريق الموازي، وأن لا خطر من السير بمحاذاة قطار هادر في ليلة نصف مُقمِرة. تمنّيتَ في نفسك لو لم يكن الرجل هناك .. أو أنك لم تكن بين قوسي واقع يزداد تأزّماً كل صافرة. تذكر أنك الوحيد هناك، وأن عصا “التحويلة” بين أصابعك تديرها كيف تشاء وقتما تريد، والخيار لك. إما أن تترك القطار يسير في طريقه المقدور ليطحن العظام الليّنة ويفرق اللحوم الغضة بين عجلاته الصدئة، أو أن تهرب من شر مقدور إلى شر ممكن، فتحوِّل قطار الليل عن وجهته ليفصل روح العجوز عن عروقه المتغضنة، وبهذا تنقذ زهوراً لم تتفتح بعد من مصير مُظلم في ليلة نصف مغمضة.
تذكر أن القطار يقترب، وأنه ليست لديك رفاهية الإنتظار، وأن أحداً لن يشهد أصابعك التي تُحرِّك عجلات الموت إلا الله، وعصفور وقف قرب نافذتك نصف المضيئة، وضميرٌ لم يمت بعد. سيكون لديك وقت كاف للبكاء على من رحل، لكنك الآن تحتاج إلى قرار ستدفع ثمنه لاحقاً من أمسياتك الباردة. يمكنك أن تعود إلى النوم لتدفن رأسك في سترتك الصوفية، وتدَّعي أنك لم تَرَ، ولكنك عن قريب ستنزل من برجك العاجي لتلملم بقايا الطفولة من تحت أقدام المسافرين والباعة. ولن ينمحي الأحمر اللزج من فوق القضبان ولا من ذاكرتك الهرمة أبداً.
ربما كان العجوز يغازل الموت، ولعلّه لم يذهب إلى طريق الخلاص إلا ليزهق حياة صارت عبئاً فوق ساقيه النخرتين، وإلّا ما الذي دفعه إلى مكان كهذا في ليلة باردة كهذه؟ لعلّه جاء من بعيد ليتخلص من جثة لم يعد يرغب في وجودها أحد بعدما صارت عبئاً على كل أحد. ولكن، ألا يمكن أن يكون لهذا الكهل زوج رؤوم، وأنها ستفقد بفقده الزند والسند؟ لعلّه ينفق على إبنته الأرملة أو حفيده المعاق، فيفقد العائل بفقد العجوز اليد الحانية والصدر الدافئ؟
الخيار لك، وعصا التحويلة بين أصابعك، ولا أحد يُجبرك على تحريكها يميناً أو التجمد فوقها حتى الصرخة الأخيرة. لن يلومك أحد على موت أطفال غادروا صدور أمهاتهم وليل أسرّتهم الدافئ، وغامروا بأطرافهم الصغيرة، فتركوها للبرد والزمهرير. ولن يُعاتبك أحد على الإستسلام لقدر لم توزّعه على أسر أطفال لن يتقبلوه. ثم أنك لست شريكا في الجرم إلا باليقظة. ليتك ظللت نائماً. لكنك للأسف يقظٌ تماماً، وتعرف أن الثواني المقبلة ستغيّر مجرى الأشياء، وأنك لن تستطيع إعادة الأطفال إلى أحضان أمهاتهم ولو ملأت غرفة “التحويلة” دموعاً، وملأت لياليك صراخاً وندماً. الخيار لك … والقطار يدنو من الرؤوس اللاهية، وعيناك حنجرتان قادرتان على الصراخ في ليلة ليست ككل ليلة.
القرار لك، إما أن تترك الرياح تسير في أعنّتها وإن لم تشتهِ السفن، وإما أن تدير ظهرك لها وتدفن ذقنك في كوفيتك الصوفية الخشنة، أو تحاول أن تُغيّر مسار الأحداث لتخرج من الأزمة الطاحنة بأقل الخسائر. الخيار لك، حتى الصمت والهروب خيارٌ، لكنك مضطر أيها العربي البائس إلى المشاركة في لعبة الموت التي وضعتها الأقدار على طاولتك ذات غفلة، ومضطرٌّ لدفع كل الفواتير التي ظللت تتهرب منها دفعة واحدة. قطار الموت الآتي نحو الشرق سيدفعك إلى التخلي عن عنتريتك الجوفاء، ليضع عنقك تحت سيف الحقيقة، ويدك تحت سكين الإختبار.
مُضطرٌّ أنت في ربيعك المقبل للإختيار بين السيّىء والأسوأ، وبين الموت والموت. وقطار ترامب الآتي نحو الشرق بسرعة صاروخ عابر للوعي سيضعك في حرج بالغ أمام التاريخ وإخوة الجوار. فإما أن تذهل كل أُمَّة عما أنتجت، وتضع كل ذات عصبية جهالتها، أو يضطر كل زعيم إلى التضحية بالجار وإن عزّ، أو الصديق وإن وفى. سيضعنا طوفان ترامب أمام إختبار حقيقي للإرادة. وسنخرج خاسرين على أي حال من غرفة أطلقنا النوم فيها حتى أيقظتنا صافرة قطار ليل سريع جداً.

• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى