هل تَخَلَّت أميركا عن دورها في الشرق الأوسط؟

بقلم كابي طبراني

تبرز أكثر من علامة تعجّب وإستفهام عندما نلاحظ أن الولايات المتحدة قد فقدت خلال تسع سنوات فقط الکثير من التأثير الكبير والفريد الذي کانت تتمتع به وتمارسه في منطقة الشرق الأوسط، والذي إستغرق بناؤه أکثر من ستة عقود. ومن المفارقات، أنه في ظلّ الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب كان الإنحدار طوعياً إلى حد كبير، وذلك من إدارتين إدّعتا في البداية أنهما ستتبعان سياسة الدفاع عن المصالح الأميركية الوطنية.
من جهته أظهر أوباما عدم إهتمامه بالشرق الأوسط عندما أطلق “محور آسيا” الذي كان في الواقع محوراً بعيداً من المنطقة. وبدوره وعد ترامب بِعَكس سياسة عدم الإنخراط التي إتَّبَعها سلفه، وتعهّد بإحتواء النفوذ المتزايد لإيران. لكن ذلك كان في معظمه كلاماً من دون أفعال حتى الآن. لم تُبذَل جهودٌ للرد على إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وبناء جبهة عربية مُوَحَّدة ضد طهران، أو المضي قُدُماً في المحادثات الفلسطينية – الإسرائيلية، وهي حقيقة حاول الإيرانيون إستغلالها.
خلال الحرب العالمية الثانية، حدّدت واشنطن دورها لما بعد الحرب في الشرق الأوسط في إجتماع بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود، حيث إتفق الجانبان على أن توفّر السعودية إمدادات مستقرة من النفط مقابل الدعم العسكري الأميركي للمملكة. وكان ترتيب النفط مقابل الأمن هذا ركناً من ركائز الوجود الإقليمي لواشنطن إلى أن إتخذ أوباما مساراً مُختلفاً بعدما أصبحت الولايات المتحدة نفسها مُوَرِّداً رئيسياً للنفط وسعت إلى الإنفتاح على إيران في العام 2015.
في خمسينات القرن الفائت، تدخّلت إدارة الرئيس دوايت آيزنهاور بقوة لفرض تسوية على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في أعقاب أزمة السويس في العام 1956. وكانت هذه الخطوة أول إعلان وتأكيد ضد القوى الإستعمارية السابقة في المنطقة. كان تركيز الولايات المتحدة آنذاك منصباً على إحتواء النفوذ السوفياتي، حيث إنخرطت، لبعض الوقت، في بناء علاقات مع الأنظمة القومية العربية المُناهضة للشيوعية. وكان ذلك قبل صياغة أميركا لعقيدة أيزنهاور، التي تقوم على تقديم المساعدات إلى البلدان المُهَدَّدة بالعدوان المُسلّح من دولة أخرى.
كان تدخل أميركا في لبنان في العام 1958، كما الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في العام 1953، مدعوماً جزئياً بالخوف من أن تكتسب موسكو أرضية وموقع قدم، حتى لو كانت الحقائق في البلدين مختلفة.
في أعقاب الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1967، إتخذت واشنطن نهجاً مُختلفاً تجاه الشرق الأوسط. لقد وضعت الحرب تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي في صميم الشواغل الإقليمية، وجعلت من الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي يُمكنها أن تكون الوسيط. وبحلول نهاية العقد، أصبحت أميركا مُورِّداً رئيسياً للأسلحة لإسرائيل، فيما أدرك قادة مصر بأن الأميركيين هم وحدهم الذين يُمكنهم أن يضمنوا إنسحاباً إسرائيلياً من سيناء المحتلة.
الواقع أن سبعينات القرن الفائت شكّلت العقد الذي عزّزت فيه الولايات المتحدة نفوذها بشكل كبير، على الرغم من الثورة الإسلامية في إيران. ولم يتمكن الإتحاد السوفياتي من التنافس مع الولايات المتحدة في مجموعة المبادرات التي أطلقتها واشنطن، من المفاوضات بعد الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1973 إلى تلك التي أدّت إلى إتفاقات كامب ديفيد في العام 1978. حتى الدول الحليفة البارزة لموسكو، مثل سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد، فهمت أنها بحاجة إلى فتح قنوات مع واشنطن.
إستمر هذا النمط إلى حد ما حتى العام 2009، عندما سعى أوباما إلى إحداث تغيير مفاهيمي تجاه المنطقة. وكان بذلك يردّ على ثماني سنوات من حكم الرئيس جورج دبليو بوش، الذي أدخل الولايات المتحدة في العديد من الحروب في الشرق الأوسط الكبير، مما تسبب في عبء إقتصادي كبير على البلاد. بالنسبة إلى أوباما، كانت المنطقة قد أكلت وإلتهمت الكثير من الوقت والمال من الولايات المتحدة، وتساءل عن أسس السلوك الأميركي السابق في المنطقة.
خلال فترة ولايته، عمل أوباما مع العالم العربي على مضض، وعندما فعل ذلك، حمل معه فكرة إعادة النظر والتمعّن في الماضي. على سبيل المثال، قوّض التفاهم الأمني مع المملكة العربية السعودية من خلال محاولة إقامة علاقة جديدة مع النظام الإيراني، الذي كانت تعتبره الرياض آنذاك، ولا تزال، كمعتدٍ وخصم إقليمي.
في مقابلة مع جيفري غولدبيرغ في مجلة “أطلنتيك” (30/10/2013)، قال أوباما أنّ على السعوديين وإيران “إيجاد وسيلة فعّالة للمشاركة الإقليمية وإقامة نوع من السلام البارد”. ولم تُؤدِّ جهوده إلى الإنفراج المُتوَقَّع بسبب عرقلة المتشددين الإيرانيين أي تقدم في هذا المجال، وفقدان الحلفاء العرب الإيمان بواشنطن.
من جهته سعى ترامب إلى تصوير نفسه على أنه مناهض لأوباما وسياساته لكنه يبدو أنه يعاني من أخطاء سلفه عينها. لقد أظهر كلا الرجلين عدم إهتمام ملحوظ بالشرق الأوسط، مُتجاهلَين خطر وتداعيات ذلك، ومُرَكِّزَين على محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وعدم تحديد إستراتيجية أميركية متماسكة للمنطقة تُبنى على نقاط القوة والروابط التي سادت في الماضي، على الرغم من أن ترامب لا يزال لديه الوقت لعكس ذلك.
لقد كلّف هذا الموقف الولايات المتحدة خسارة التأثير الذي لا يتحدّاه أحد الذي كانت تتمتع به سابقاً. الآن، لا تتردد الدول الحليفة القديمة مثل المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات وقطر في التعامل مع روسيا والصين. إن إبتعاد أميركا من المفاوضات حول مستقبل سوريا، كما التحركات الأميركية الأخيرة بالنسبة إلى القدس التي تقوّض دور الوساطة في محادثات السلام المرتقبة، قد ساهما في خسارة واشنطن مفاتيح رئيسية لقوّتها الإقليمية. لماذا يُقدِم بلدٌ يتمتع بأكبر نفوذ في المنطقة بالتخلّي عنه من دون مقابل، لا يزال لغزاً.
ترامب يريد أن يجعل أميركا عظيمة مرة أخرى. وأوباما بدا دائماً مُركّزاً على حدود ومدى القوة الأميركية. وكلاهما لم يتمكن من الرؤية والإدراك بأن عدم الرغبة في الدفاع عن موقع أميركا وإعادة تحديده بنشاط في منطقة الشرق الأوسط المُتقلِّبة لن يؤكد إلّا فقدانها للبوصلة والإتجاه في العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى