ماكرون يبحث عن المستقبل ولا يريد أن يبقى رهينة الماضي الأليم مع الجزائر من طريق الإقتصاد

تمحورت زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون التي قام بها إلى الجزائر أخيراً حول مستقبل العلاقات بين البلدين، لكن هل سيسمح الماضي الأبيم بنجاح هذه العلاقة؟

مصنع بيجو – سيتروين في الجزائر: يبدأ الإنتاج في 2018

بقلم دالية غانم – يزبك*

حطت رحال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الجزائر في 6 كانون الأول (ديسمبر) في زيارة صداقة وعمل، على حدّ تعبير قصر الإليزيه الذي شدّد على أنها ليست رسمية. وخلال زيارته التي دامت إثنتي عشرة ساعة، زار ماكرون النصب التذكاري للشهداء وجال في قلب العاصمة، وإلتقى كلّاً من رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة، ورئيس الوزراء أحمد أويحيى، كما حضر عشاء عمل مع عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة، الذي يُشكّل الغرفة الأولى في البرلمان الجزائري.
ماكرون، البالغ من العمر 39 عاماً، زار الجزائر بصفته أول رئيس فرنسي ينتمي إلى جيل لم يعِش حقبة الاستعمار الفرنسي في البلاد. وعلى غرار كل الرؤساء الفرنسيين السابقين، كان عليه التعامل مع إرث الماضي الثقيل بين البلدين اللذين لم يُشفَيا بعد من ندوب ذاكرة تلك الحقبة. وقد تساءل العديد من الجزائريين عمّا إذا كان ماكرون سيظل مُتمسّكاً بما قاله في أثناء حملته الإنتخابية، حين وصف الاستعمار الفرنسي بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، ما أثار موجة من السخط في فرنسا آنذاك، وأفقده ثلاث نقاط في إستطلاعات الرأي، الأمر الذي إضطره إلى الإعتذار.
وفي بادرة رمزية، تعهّد ماكرون خلال زيارته الجزائر بإعادة جماجم مقاومين جزائريين قُتلوا على أيدي الفرنسيين في خمسينات القرن التاسع عشر، والمعروضة راهناً في متحف الإنسان في باريس. لكنه هذه المرة لم يستخدم العبارة المُثيرة للجدل الذي إستعملها في أثناء حملته، ولم يُقدّم إعتذاراً رسمياً للجزائريين. بل أصرّ، عوضاً عن ذلك، على “بناء علاقة جديدة مع الجزائر” و”فتح صفحة جديدة معها”، مُناشداً الشباب الجزائريين “ألّا يكونوا أسرى ماضٍ لم يعيشوه حتى” و”أن يفكّروا في كيفية المضي نحو بناء علاقات مستقبلية مع فرنسا”. ويرى ماكرون أنه بالإمكان توطيد أواصر العلاقات بين فرنسا والجزائر من خلال بلورة علاقات إقتصادية جديدة، وتعزيز آفاق الإستثمار في موارد الطاقة المتجدّدة، والإبتكار، والإقتصادات الرقمية، وصناعة السيارات، وصناعة الأدوية، وقطاعات أخرى.
الواقع أن فرنسا تسعى إلى تعزيز إستثماراتها في الجزائر التي تحتلّ موقعاً جغرافياً إستراتيجياً مُجاوراً لأوروبا، ويبلغ عدد سكانها 41 مليون نسمة، أي نصف عدد سكّان المغرب العربي. والجزائر لديها أيضاً إمتدادٌ جغرافي في أجزاء من غرب أفريقيا، ما يمثّل سوقاً تضم حوالى 330 مليون شخص. كذلك، تسعى فرنسا إلى تنويع إقتصادها، ما يجعلها أكثر إنفتاحاً على الإستثمار من السابق. ونظراً إلى أن الحد الأدنى للأجور في الجزائر يبلغ 170 دولاراً في الشهر، فإنها تشكّل مصدر جذبٍ للمستثمرين بسبب التكلفة المنخفضة لليد العاملة فيها.
فقدت فرنسا في العام 2013 صفة الشريك التجاري الأول للجزائر لصالح الصين. لكنها في العام التالي حلّت محلّ إيطاليا، إذ أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري للجزائر بعد الصين، وبلغت حصتها 10.9 في المئة من السوق الجزائرية. وخارج قطاع الهيدروكربون، لا تزال فرنسا أبرز جهة أجنبية موظِّفة – إذ توظِّف منشآتها 40,000 شخص بشكلٍ مباشر، وحوالى 100,000 شخص على نحو غير مباشر – وأكبر مستثمر في الجزائر، إذ يبلغ عدد الشركات الفرنسية في البلاد حوالى 500 شركة.
من بين هذه الشركات الفرنسية الشركة المصنعة للسيارات والدراجات النارية “بيجو سيتروين”، التي أعلنت أخيراً عن إستثمارٍ بقيمة 100 مليون يورو لبناء مصنعٍ في وهران مع ثلاث شركات جزائرية. ويُعتبر هذا المشروع المشترك، الذي تمّ تأسيسه في إطار اللجنة الاقتصادية المشتركة الفرنسية – الجزائرية، آلية لتوحيد وتنويع العلاقات التجارية والصناعية بين البلدين، ومن المتوقّع أن يؤدي إلى إستحداث 1000 فرصة عمل جديدة وإنتاج 75,000 سيارة سنوياً. والأهم من ذلك أنه سيسمح لشركة “بيجو سيتروين” بتحقيق هدفها المتمثل في بيع 700,000 سيارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلول العام 2021.
من ناحية أخرى، وُقّعت إتفاقات شراكة إضافية في 7 كانون الأول (ديسمبر) بعد عودة ماكرون من الجزائر، خلال إجتماع عقدته اللجنة الحكومية الجزائرية – الفرنسية المشتركة الرفيعة المستوى في باريس. ومن بين هذه الإتفاقات: إتفاق لإنتاج العربات السلكية (المصاعد الهوائية) في الجزائر من قبل شركة “بوماغالسكي” الفرنسية، وإتفاق تعاون بين المعهد الوطني الجزائري للمُلكية الصناعية (INAPI ) والهيئة الفرنسية للتوحيد القياسي، وإتفاق ثالث يهدف إلى إنشاء مركز رقمي في مجال الصحة بين جامعتيْ تلمسان ورين.
ويتمثّل أحد الأهداف الرئيسية لهذه الجهود في الإنخراط في الإنتاج التعاوني كإستراتيجية مُربحة لكلا الطرفين. وتُعتبر حالة “فراغوربرانت” خير مثال على ذلك، فقد كانت شركة الأجهزة المنزلية الفرنسية على شفير الإفلاس عندما إستحوذت عليها المجموعة الجزائرية “سيفيتال”. وقد ساهم ذلك في إنقاذ حوالى 500 وظيفة في مواقع الإنتاج الفرنسية في “سان جان دو لا رويال” وفندوم، مع الإبقاء على موظفي الشركة في الجزائر والبالغ عددهم 1200. ومن المتوقع أن تخلق هذه المبادرة 7500 فرصة عمل جديدة بحلول نهاية العام 2018.
لا تقتصر حاجة فرنسا إلى الجزائر على القطاع الاقتصادي وحسب، بل تتعداه أيضاً إلى الأمن، إذ تُعتبر البلاد طرفاً محورياً في “مكافحة الإرهاب” في منطقة المغرب العربي- الساحل. فالجزائر تمتلك قدرات وساطة مؤكدة وكذلك روابط قوية سمحت لها بمساعدة دول مجاورة، مثل تونس وليبيا ومالي. ويُعتبر ذلك أساسياً بالنسبة إلى فرنسا، فقد كانت الجزائر الدولة الراعية للمفاوضات بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة التي تُوجَت في العام 2015 في إبرام إتفاق سلام. وكانت الجزائر أيضاً من ساعد فرنسا خلال عملية سرفال على محاربة المسلحين وطردهم من شمال مالي، وذلك عبر السماح للطائرات العسكرية الفرنسية بإختراق مجالها الجوي وتزويدها بالوقود مجاناً. واليوم أكثر من أي وقت مضى، تحتاج فرنسا إلى المساعدة الجزائرية في مكافحة التطرّف العنيف، والقتال المسلح، والجريمة المنظمة، والهجرة غير القانونية في منطقة الساحل. وتُعتبر الجزائر الجهة الفاعلة الوحيدة التي تملك القدرات والخبرات العسكرية الحقيقية في المنطقة لتقديم المساعدة في هذه المجالات.
ويُعتبر التعاون الإقتصادي والأمني بين الجزائر وفرنسا بالغ الأهمية. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالتاريخ، تعود إلى الواجهة المطالبة بإصدار إعتذار رسمي عن فترة الإستعمار الفرنسي وعن الإنتهاكات التي مُورست وقتها بحق الجزائريين. وإن لم يحدث ذلك، ستظل هذه الذكرى عقبة كبيرة أمام العلاقات المستقبلية بين البلدين.

• دالية غانم – يزبك باحثة مُقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. تتمحْور أبحاثها حول العنف والتطرّف السياسيين، والتعصّب، والإسلاموية، والجهادية، مع تركيز خاص على الجزائر وعلى انخراط النساء في التنظيمات الجهادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى